هناك عدد محدود للقراءات المسموح بها للزوار

[2] هو عدد القراءات المتبقية

كتاب الإرادة - الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث || بيير داكو

سيد الأحجار السبعة

عابر الزمن الثالث
المشاركات
598
مستوى التفاعل
1,073
الموقع الالكتروني
alkynilogy.blogspot.com
بيدو تعريف الإرادة يسيراً للوهلة الأولى. فإذا كنتُ مدعواً إلى إحدى السهرات، طرحتُ على نفسي السؤال التالي : هل أذهب أم لا أذهب ؟ ثم أوازن بين الحسنات والسيئات، فأقرر «الإيجاب» أو «السلب». هذا القرار يكون الفعل الإرادي.
1708906864855.png

ثمة عاملان أديا إلى القرار الإرادي :

أ. الظروف الخارجية التي هي الدعوة هنا.
ب الظروف الداخلية، كالمزاج وحالة التعب والحياة النفسية وأسلوب النظر إلى الأمور والحاجة إلى التسلية والخوف من الناس، الخ.

هاكم مثالاً آخر : إذا كان علي أن أذهب إلى طبيب الأسنان، فإن طريقتي في الفعل الإرادي تختلف بحسب ما إذا كنت متألماً أم لا، ما إذا كنت خائفاً أم غير خائف، ما إذا كنت عصبياً أم غير عصبي ، إلخ . يتبين لنا الآن أن الفعل الإرادي منوط بميولنا ونزعاتنا وأمزجتنا وأهوائنا، إلخ . إنه لأمر مفهوم أننا «نريد». ولكن ثمة، على الدوام، شيء فينا يؤثر على قرارنا ... دون أن يسألنا رأينا، الأمر الذي يرجع ضروب الغرور الإنساني بدرجة محسوسة إلى أكثر الحدود اعتدالاً .

يضاف إلى هذا أن ثمة كثيراً من الأسباب في العدد الكبير من الأفعال الإرادية لا تجرؤ علـى الاعتراف بها ، وكثيراً من روح المنافسة والرغبة في تجاوز الآخرين أو التسلط عليهم، وكثيراً من الحاجات إلى الانتصار وإلى أن يقدم الإنسان الدليل لنفسه أنه «قوي» وأن يبرهن أنه قادر على القمع وأنه يتصف بالطبع القوي .

فهل هناك إرادات حقيقية وإرادات زائفة؟ وهل هناك نسخة أصلية وصور كاريكاتوية لها ؟ نعم. وهذا إنما هو ما سأتناوله بالبحث .

أ. كيف يتصور الناس الإرادة ؟

أن يكون المرء إرادياً، في رأي الكثيرين ، يعني أن يجمع قواه، ويكز على فكيه، ويقطب حاجبيه، ويندفع في العوائق. ولكن، لا شيء أكثر خطأ من هذا التصور .

أو ينظرون على الإرادة عبر سلسلة من الشعارات التي يحسبونها صحيحة بصورة نهائية . فما هي هذه الشعارات ؟

- الإرادة؟ إنها القدرة على القول على الرغم من جميع العوائق .

- عندما أريد، فلا شيء يقف في سبيلي .

- من يريد يقدر . وذلك إنما هو الشعار الرئيس الذي يوجهه بعضهم إلى المرضى النفسيين دون أن يعلموا ماذا يقولون. وكانت عاقبة هذا الشعار كثيراً من الضرر .

- عندما أقرر، قراري نهائي لا رجعة فيه. إن أفضل الأسباب لا تجعلني أغير رأيي .

- الإرادة، إنها التغلب على العوائق .

- الإرادة؟ إنها التمسك بالأفكار بحزم لا يتزعزع .

- إذا قلت لا ، فلا .

- لا بد للإنسان من أن يريد بصورة عنيفة ....
إلخ إلخ.

ولكن هذه السلوكات كلها هي تجليات دنيا للإرادة. إن الشبه بينها وبين الإرادة الحقيقية بعيد بقدر بعد الشبه بين صفيحة من التوتياء وسبيكة من الذهب.

ب - متى يتصرف الإنسان تصرفاً إرادياً أو لا إرادي ؟

1- التصرف الإرادي إنما هو التصرف لأسباب يعيها الإنسان :


يبدو طبيعياً، إذا قلت «أريد»، أن أعلم الأسباب على الأقل، أن أعلم بحد أقصى من الوعي لماذا أختار أو أقرر هذا الأمر أو ذاك فالمفروض كحد أدنى أن يستطيع الإنسان عندما يقول «أريد»، إحصاء الأسباب التي من أجلها يريد إحصاءً واعياً.

ولكننا يمكن أن نشهد الحوار التالي سبع حالات من عشر :
-إنني أريد هذا الأمر.
- لماذا؟
- لأنني أريده وكفى .

يزعم هؤلاء الأشخاص أنهم يتصرفون تصرفاً إرادياً . في حين أن الفعل الإرادي يقتضي أن يستطيع الإنسان بيان الأسباب الشعورية. فنحن إذن، هنا، أمام آلية لا شعورية لا أمام إرادة.

ولنضرب مثالاً على إنسان تدفعه الغريزة إلى اتخاذ قرار، أو تدفعه الحاجة إلى أن يبدو على حق أو إلى السيطرة، إلخ. فهل يتصرف تصرفاً إرادياً على الرغم من أن مظهره يدل على ذلك ؟ كلا، البتة. إنه يتصرف تصرفاً لا شعورياً. يضاف إلى هذا أنه لا يخطر في بال أحد أن الغضب إرادي أو أن الانفعالي أراد لنفسه الوجل ...

2 - التصرف اللاإرادي إنما هو التصرف الذي تدفع إليه أشياء مخيفة لاشعورية :

وعلى هذا النحو إنما يقول الملايين من الأشخاص أريده في حين أن عملهم يبقى لا إرادياً حتى ولو اعتقدوا العكس. فما السبب في ذلك ؟ السبب أن لا شعورهم في الدوافع والعقد، على سبيل المثال أقوى من شعورهم. هؤلاء الأشخاص لا يريدون شيئاً. إن لا شعورهم هو الذي يدفعهم إلى أن يريدوا .

إليكم مثالاً على ذلك : هاكم إنساناً اتخذ قراراً خطيراً منذ بضع سنين. لقد أقسم أنه «يريد أن يصبح محامياً شهيراً. فشرع يدرس كثيراً، ويبذل جهوداً جبارة، ويعمل إلى درجة الإنهاك، ويتغلب على هذا الإنهاك لقد انشدّ نحو الهدف دون أن يهتم بأي شيء آخر مهما كان.

ولنفرض الآن بأن هذا الرجل مصاب بشعور قوي بالدونية ، وبما أنه يشعر بالدونية، فإنه يعاني بصورة لا شعورية إلى أن يصبح متفوقاً.

فهل قام، في هذه الحالة، بأفعال إرادية ؟ أقصد هل قام بأفعال أرادها بصورة شعورية ؟ قلما فعل هذا . إنه ليس هو الذي قرر أن يصبح محامياً شهيراً، وإنما شعوره بالدونية هو الذي وجهه إلى البحث عن التفوق. ولكنه من المرجح أن يجهل ذلك.. فهو مقتنع بأنّه قام بملايين الأعمال الإرادية. والحقيقة أنه أذعن إلى ضغوط داخلية. قد تكون عاقبة هذه الإرادة الزائفة رائعة جداً من الناحية الفردية أو الاجتماعية وهي ليست على أي الأحوال ، نتاج إرادة حقيقية.

ففي كل فعل إرادي ، ثمة إذن مزيج من الشعور واللاشعور دائماً . ويترتب على ذلك:

1. تتعاظم الإرادة بتعاظم الأسباب الشعورية. وعندئذ يعرف الشخص ماذا يريد ولماذا. إذن، فالمعرفة العميقة بالذات أمر لا غنى عنه.

2. تتضاءل الإرادة عندما تزداد الدوافع اللاشعورية، ولنشر أيضاً إلى أن باستطاعة كثير من الأشخاص أن يقدموا ، على هذا النحوء الأدلة الخارجية على إرادة قوية ... في حين أنه لا وجود لشيء منها . وسنرى ذلك فيما بعد.

الإرادة التي تطابق العقل - تقوم إحدى صفات الموجود الإنساني على التنبؤ بنتائج بعض الأفعال. إنه يعلم ، على سبيل المثال، أن تعاطي الكحول تعاطياً لا يتصف بالاعتدال سيسبب له الألم إن عاجلاً أو آجلاً، فمن الممكن بالنسبة إليه، وهو عالم بذلك ، أن يوازن بين صحته الحالية وبين المرض المقبل. وخلاصة القول إن الإنسان الجدير بهذا الاسم قادر على أن يوضح نتيجة أفعاله وأن يعقلها ويحللها .

وأكرر أن أسبابنا الشعورية تمتزج بقوى داخلية غامضة، كغرائزنا ودوافعنا وانفعاليتنا ومزاجنا وحاجاتنا، إلخ. فإذا كانت الإرادة منوطة بأسباب شعورية، فإنها تكون خاضعة إلى معرفتنا بذواتنا وبالأشياء الخارجية. ولنأخذ حالة التدخين ولنطرح على بعض الأشخاص سؤالاً لا يمكن أن يكون سؤال أكثر ابتذالاً منه ، لماذا قررت ألا تدخن إطلاقاً ؟

وستكون الإجابات التالية التي نحصل عليها سطحية كل السطحية، ولا تكشف عن إرادة حقيقية على الإطلاق.

- لأن ذلك مضر بالصحة. ويرجح في الحقيقية أنه لا يعرف شيئاً. فهو يردد ما قيل له ..

- لأن ذلك يكلف كثيراً من المال .

- لأن التدخين عادة حمقاء إلى حد بعيد في الحقيقة. فإذا سئل لماذا ، فإنه سيكون، دون شك، عاجزاً عن الذهاب بعيداً في التحليل . .

- لأني أريد أن أمتحن إرادتي. فهو إذن، غير واثق من أن لديه إرادة .

- قلت لا ، ذلك يعني لا . فنحن، إذن، بصدد عناد لا بصدد إرادة ... حتى ولو كانت نتيجة قراره هامة.

- لأن زوجتي لا تريد أن أدخن مطلقاً. وربما كانت هي الإجابة الأوضح ..

لفرض الآن أن طبيباً قد قرر ألا يدخن قطعاً . لماذا؟ لأنه مطلع إطلاعاً جيداً ويستطيع أن يحلل مفعول التبغ تحليلاً عميقاً. إنه يوازن بين صحته الحالية وبين أخطار المرض. فلدى هذا الطبيب إذن من الأسباب الشعورية أكثر مما لدى الآخرين. ويمكن القول إن له إرادة أكثر مما للآخرين.

ولنفرض كذلك أن محللاً نفسياً هو الذي يتخذ القرار . يعرف هذا المحلل النفسي نفسه إلى حد بعيد. لقد نجح في تحليل لا شعوره تحليلاً دقيقاً. إنه إذن قادر على أن يكشف عن أسباب ارادته، إن لديه كثرة غير محدودة من العناصر التي تتيح له أن يقرر بوضوح وعن خبرة. فإرادته ستكون بالطبع، أكثر سعة ووضوحاً ...

الإرادة الأخلاقية - إنها الإرادة التي توجهنا نحو الخير. إن كل إنسان لديه انطباع بأن من الأفضل له أن يتبع عقله من أن يستسلم إلى نزعاته الغريزية، فالإنسان الأكثر وعياً بين الناس يحتفظ بنزعات وغرائز، إلخ. فلكي يكون الإنسان ذا ذا إرادة كاملة، عليه أن يكون فكراً محضاً . ثمة اتجاه في علم النفس الحديث إلى ألا تعد أصيلة من الإرادات إلا تلك التي تبحث عن الخير والأفضل. فليس في بحث الإنسان عن لذته ومتعته ورفاهيته أي إشراك للإرادة.

إرادة القوة - هذه الصورة من الإرادة تدفع الإنسان إلى السيطرة على الناس الآخرين على وجه العموم. إنها ميل إلى أن يصبح الإنسان أكثر قوة دون أن يبالي بالوسائل التي يستخدمها. فهذه الإرادة، إرادة القوة ضارة إذن إنها غير سوية، دعامتها الشعور بالدونية والعجز، دعامتها حاجة الإنسان إلى أن يفعل أفضل مما يفعله الآخرون وإلى أن يكون أكثر شهرة وقوة، إلخ.

المربون العصابيون الذين يسيطرون بسلطوية هم على هذه الحال. إنهم يفرضون «بإرادتهم» .... وهم مقتنعون بأنهم يتصرفون «لخير» الطفل، وقد كانت ألمانيا الهتلرية، من الناحية الاجتماعية، مثال على هذه الإرادة، إرادة القوة.

ثمة صورة أخرى، ولكنها صورة أسمى منزلة عندما يريد الفرد أن يزداد قدره أكثر فأكثر وأن يحصل على السيادة على ذاته وأن يحقق أعمالاً رائعة، إلخ . فهل هذه الإرادة كاملة ؟ كلاء بالتأكيد. إن الأنانية دعامتها. فالإنسان يبحث عن خيره، ويحقق عمله، ويتجه نحو قيمته هو.

مثال ذلك : يفرغ فنان جهده في عمله، إنه ينجزه بإرادة «عاتية». فهل هي الإرادة الواقعية ؟ كلا. إن هذا الرجل يحاول أن يحقق ذاته ويبحث عن قوة ذاته ويبحث عن قوة تخصه، إلخ. وستكون هذه الإرادة في منزلة أسمى إذا قدر أن له رسالة عليه أن ينقلها إلى الآخرين . وعندئذ، فهو يتجه نحو خير الآخرين إلى حد ما.

إرادة القوة ، الإرادة الخسيسة ، كبيرة الانتشار، فالسواد الأعظم من الناس ملك يمينها ، وبصورة خاصة في طراز مجتمعاتنا التي تسودها الرغبة في التنافس والحاجة إلى تجاوز الآخرين والسيطرة، إلخ.

إننا نكون أمام عصاب وضعف أو أمام عجز على الغالب، بدلاً من الإرادة. التصور الكلاسيكي في الإرادة ينقسم الفعل الإرادي ، من الناحية الكلاسيكية، إلى أربع مراحل :

1 - التصور: يخطر الفعل الذي يقصد تنفيذه إلى الذهن. مثال ذلك أنني أتصور أنني مدعو إلى حفلة رقص .

٢ - المناقشة : يفحص الإنسان في أثناء المناقشة الأسباب الإيجابية والسلبية : هل أذهب إلى الحفل الراقص لهذا السبب ؟ أم هل أمتنع عن الذهاب لذلك السبب الآخر ؟

3 - القرار : إنه الحكم الذي ينهي المناقشة، فيقبل الإنسان أو يرفض.

4 - التنفيذ : إنه يعقب القرار بسرعة على وجه التقريب.

إن مرحلة القرار، من بين هذه المراحل الأربع ، هي التي يمكن أن تكون الفعل الإرادي . إنه لأمر رائع من الناحية النظرية ... ولكن ماذا يحدث في الحياة العادية؟

كتب شارل بلوندل بهذا الشأن :

«إنه يشتهي حقاً أن يضع إعلاناً في الصحف يدعو فيه أولئك الذين اختاروا مهنتهم أو قرروا سفراً بهذا الشكل، أن يتفضلوا بالتعريف عن أنفسهم».

والواقع أن كثيراً من المناقشات قد تتم عبر ركام داخلي ، عبر مجموعة عجيبة من الدوافع اللاشعورية، عبر الغرائز والأمزجة والمخاوف وضروب الحصر والعقد العصبية ، إلخ .. كما رأينا ذلك من قبل . فالقرار النهائي منوط قبل كل شيء بالحالة التي نستقبل بها الفكرة استقبالاً داخلياً. فإذا تلقى أحد الخجولين الكبار دعوة، كانت استجابته الأولى صدمة الفعالية. فكيف يمكن أن يقرر «بصورة إرادية»؟ إن حالة الخجل السائدة لديه لهي التي تدفعه، إلى حد كبير، إلى اتخاذ قراره، سواء قال نعم أم لا . إذن، فهل يقرر بصورة إرادية ؟

يضاف إلى هذا أن العمل الإرادي لا ينتهي إلا في المرحلة الرابعة ، مرحلة التنفيذ. فتقرير أمر من الأمور لا يعني تنفيذه. ويتدخل بين القرار والتنفيذ، على الغالب، ضروب من التردد والشك والاجترار .. تثير مناقشات جديدة وقرارات جديدة. وقد يحدث في أغلب الأحيان أن يتخذ الشخص قراراً، ولكنه لا ينتقل إلى التنفيذ أبداً. وتلك إنما هي الحالة العادية، حالة المدخنين الذين «يقررون» تغيير سلوكهم وحالة المدمنين على الكحول. وذلك أيضاً إنما هو واقع كثير من المرضى النفسيين، كالمصابين بالوهن النفسي على سبيل المثال . إنهم «يريدون» أن يفعلوا كثيراً من الأمور ويقررون أنهم سينجزون «غداً» هذا الأمر أو ذاك. ومع ذلك، فإنهم لا ينتقلون إلى التنفيذ . لقد توقف العمل الإرادي في أثناء الطريق. وهذا يعني أنه لم يحدث .

وأخيراً، هل ثمة وجود للإرادة؟ - لنفرض أننا في الشارع وأننا نلتقي بعجوز يجر عربة ثقيلة الحمل. ولن يبقى أي مار سوي لا مبالياً عندما يراه . فذلك أمر ممتنع . ويتجلى لدى رؤية هذا العجوز البائس عدد كبير من العواطف. ولنفرض أنها تخطر على الشكل التالي علماً بأن الواقع أكثر تعقيداً إلى حد كبير ..

العاطفة الأولى : الشفقة. فالمشاهد يستجيب قائلاً : ياله من بائس ! في سنه يحدث له هذا ! حتى ولا حيوان يساعده ! إلخ ... إلخ ...
العاطفة الثانية : أريد أن أساعده . لماذا؟ لأن هذا هو واجبي، لأن هذا أمر طبيعي لأنني لا أحتمل هذا المشهد، لأنني أضع نفسي مكانه ، إلخ .... إلخ .....
العاطفة الثالثة : الخجل ، الخوف من رأي الآخرين في ذلك، الخشية من أن يبدو الإنسان مضحكاً، إلخ ....

وأخيراً، إما أن :

١ - يُكره المشاهد نفسه، ويعبر الشارع، ويساعد العجوز فيسر من ذلك أو يفخر به . لقد أنجز عملاً صالحاً و«سجل نصراً على نفسه».

وإما أن :

2 - يبدل المشاهد اتجاهه ويهرب أخلاقياً أو إنه لا يتحرك . فيشعر بأنه مستاء، خجل من نفسه ومن «جبنه»، جبن منشؤه الخوف أو الخجل أو الغباء، على الغالب .

ونستخلص إذن أن الشخص الأول كان إرادياً والثاني «جبان». فهل هذا صحيح؟ من الواضح أن ضروب التردد والقرارات قد أثيرت بفعل الحالات الداخلية، كالشعور بالدونية الخجل ووجهة النظر في الأمور والحس الأخلاقي والشفقة والتضامن، إلخ ...

والحقيقة أن بإمكان المرء أن يزعم أن الإرادة ليست ذات صلة بكل ذلك . ولكن الأمر لا عدى أن يكون مجموعة من المنعكسات المعقدة يتراكب بعضها فوق بعضها الآخر. وتنطلق هذه المنعكسات على الرغم منا وتتحرك فينا دون أن يكون لنا يـد فيها . فأي منعكس هو المنتصر؟ إنه المنعكس الأقوى بكل بساطة. وسيكون هذا ، بالتالي ، هو النفي المطلق للإرادة كما يفهمها الناس عادة.

1708910034537.png
ها هو الآن مشاهد آخر يلاحظ العجوز. إنه يعبر الشارع ويدفع العربة دون أن يعاني صراعاً داخلياً أو يتردد، ودون دافع انفعالي أو خجل أو تباه . إنه لم يبذل أي جهد في تقرير عمله .. لقد تقرر العمل في نفسه بصورة تلقائية، وقام به ببساطة وطبيعية كاملتين . ومن المؤكّد أن هذا الرجل يتصف بيسر نفسي أكثر مما يتصف به الآخرون، فهل كان من الواجب أن يحرك إرادته ؟ كلا، لأنه لم يلجأ إلى المحاكمة قبل كل شيء . عندئذ ... هل استسلم، هو أيضاً، إلى منعكسات أكثر كمالاً من منعكسات الآخرين ؟

إذن ، ما هي الإرادة التي أكب عليها الفلاسفة وعلماء النفس طوال قرون دون أن يصلوا إلى تعريفها أبداً؟ هل هي موجودة أم أن الناس يحسبون الوهم واقعاً؟ من المؤكد أن الإنسان يقول: «أريد». ولكن ألا يقول ذلك بغية التعبير عن منعكسات أصبحت شعورية؟ وما هو دورنا في هذه الحالة؟ إن دورنا ينحصر في رؤية منعكساتنا بوضوح وفي القدرة على القول: «لقد أردت وقررت هذا» ما المنعكسات التي دفعتني إلى ذلك ؟ ما هو منشؤها ولماذا؟ وما الحركة الداخلية اللاإرادية التي ولدت عملاً أعتقد أنه إرادي ؟» .

ونقع من جديد، مرة أخرى كذلك، على المعرفة التي يجب أن تمتلكها عن أنفسنا .

ج - هل تفترض الإرادة جهداً أو تشنجاً أو توتراً ؟

تفترض الإرادة جهداً وتوتراً وتشنجاً بالنسبة إلى الحس المشترك. ويعتقد الناس بصورة عامة أن الإرادة ينبغي لها أن تتوتر بفعل جهد. ويعتقدون بأن الإرادة دون جهد لا وجود لها . ولكننا سنرى أن الإرادة التي تتطلب جهداً ليست إرادة رفيعة المنزلة .

إليكم مثلاً طالبين : الأول : موهوب جداً وقوي من الناحية الذهنية. يتمتع بحيوية جيدة وليس ملزماً بأن يقوم بجهد . يتغلب على المشكلات ويركز ذهنه بسهولة، يفهم مباشرة دون أدنى جهد ويفرغ من دراسته بيسر ودون تعب مفرط .

الثاني : قليل الذكاء وضعيف من الناحية الذهنية. يتصف بحيوية ضعيفة ويتقدم بصعوبة. إن عليه أن يبذل جهوداً كبيرة، ولا يفلح في تركيز ذهنه . إنه يستمر على الرغم من كل شيء وهو يتشنج، ويجهد إرادته كلها، ويصل تدريجياً إلى نهاية المسألة وينجح .


فمن من الطالبين يتمتع بالإرادة الواقعية ؟ هل هو الطالب الأول أم الثاني؟

إنه الطالب الثاني من وجهة نظر الحس المشترك. والسبب في ذلك أنه يبذل جهوداً ويستمر رغم كل شيء. ولماذا يستمر ؟ هذا ما ينبغي لنا معرفته بالدرجة الأولى. ربما كان سبب استمراره الرغبة في التنافس، أو الخوف من أن يكون أدنى من الآخرين، أو الخشية من احتقار الآخرين، أو الرغبة في أن ينهي دراساته بصورة مشرفة كيما لا تكون تضحيات الأبوين عديمة الجدوى، أو الخوف من الأبوين، إلخ. وبما أنه يبذل جهوداً جبارة للتغلب على الصعوبات، فإن الناس يعجبون به، الأمر يعد طبيعياً إذا كانت بواعثه نبيلة وحسه الأخلاقي رفيع المستوى. ولكن ذلك لا يبرهن إطلاقاً على أننا بصدد إرادة واقعية . وحتى ولو كان الحس الأخلاقي رفيع المستوى إلى درجة كبيرة، فإننا إزاء إرادة دنيا تدين بوجودها إلى نقص القدرة وإلى التشنج.

وماذا عن الطالب الأول ؟ إنه يبلغ هدفه دون جهد وينعم بقدرة تمنحه اليسر الطبيعي. إنه يحتفظ بطاقته سليمة كما يحتفظ بانسجام أناه. فالإرادة هي فعل مطابق للعقل الواعي وللانسجام، فكونه ليس عليه أن يبذل جهداً، أمر يبرهن على كمال عمله ، إنه هو الذي ينعم بالإرادة الواقعية لأن الإرادة كمال وقدرة. إنها تتطلب إذن شروطاً كاملة لكي تتجلى.

هاكم مثلاً آخر : أحد الكتاب .

أولاً :

إنه يكتب دون جهد، بقوة ، باسماً، دون أي تشنج إنه يعمل بسرعة وانتظام ، دون تردد ولا تعب، ويعرف هدفه معرفة واضحة، ويمضي نحوه بكل ذكائه وبكل حيويته .

وبعد انقضاء بعض الوقت :

ثانياً :


يصبح تعباً بالتدريج. ويستمر في الكتابة، ويمضي نحو إنهاك يزداد شيئاً فشيئاً. فيبدا يتشنج ويضيع خيط أفكاره». إنه يتوتر ويستمر كذلك مسيطراً على تعبه ، «قاهراً» جسده. ويفكر ملياً ويركب رأسه . ويصارع صراعاً شاقاً لكي يبلغ نهاية عمله (لسبب من الأسباب).

متى يتمتع هذا الكاتب بالإرادة الواقعية؟ إنه يتمتع بالإرادة الواقعية في المرحلة الأولى. فكون الإرادة ذات المرتبة الرفيعة فعلاً واعياً يطابق العقل ، فهي إنما تكون عندئذ طافحة بالحيوية واليسر والوضوح. إن الكاتب يتصرف تصرفاً إرادياً بسجيته .

متى يفقد إرادته الواقعية؟ ومتى تصبح هذه الإرادة إرادة دنيا؟ إنه في المرحلة الثانية إنما يستنجد بالإرادة الدنيا . فطاقته تتناقص ... وإرادته تسلك درب نفسه، إنه يتشنج ويركب رأسه، ويمضي نحو هدفه وقد تلاشت أناه بفعل التعب . إنه عندئذ إنما يكون مضطراً إلى أن يستنجد بـ «كل إرادته» ... الأمر الذي يبرهن على أنها تعوزه فيسقط في صورة دنيا من صور الإرادة .

يسود الاعتقاد إذن، في الاستعمال الشائع، أن الإرادة تعني الجهد، وأنها لا تتدخل إلا عند وجود الانتصار والغلبة والسيطرة والفوز بالسلطة على الآخر، إلخ. والاعتقاد السائد أن الإرادة ليست مخصصة إلا للتغلب على الصعوبات.

ترتكز هذه الآراء على ملاحظات جزئية أو مشوهة. فإذا كان عليك أن تبذل جهداً، فذلك دليل على نقص فيك. وإذا كان عليك أن تبذل جهداً جباراً لترفع خمسين كيلو غراماً ، فهذا إنما يعني أنك لم تبلغ درجة الكمال في هذا المجال. أما إذا كنت، على العكس، ترفع هذا الثقل بيسر، فهذا إنما يعني أنك تتمتع بقوة تتلاءم مع عملك. ومن البديهي أن الجهد عنوان الإرادة. ولكن المقصود، وأكرر قول ذلك مرة أخرى ، صورة قاصرة من الإرادة. فالإرادة ذات المنزلة الرفيعة ترتكز على التوازن والقدرة : وهذا هو السبب الذي من أجله لا تستلزم جهداً . فعلى المرء أن يبذل جهوداً إرادية، عندما تصبح الإرادة ناقصة. ومن المؤكد أن ذلك قد يبدل من التقاليد الشائعة حول الموضوع بعض التبديل ، ولكني عاجز عن أن أفعل شيئاً بهذا الصدد. فذلك هو القانون البيولوجي ... والمنطقي بكل بساطة، لا سيما وأن الواقع أجمل من الوهم إلى حد بعيد. أليس الإنسان الواضح، الواعي، أكثر تحققاً من الإنسان الذي يخضع إلى إنهاكه أو إلى لا شعوره كلياً على وجه القريب، حتى ولو بذل جهوداً تبدو أنها إرادية ؟ .

ما هي شروط الإرادة الكاملة ؟ سنرى هذه الشروط فيما بعد. ولكنني سأكرر ما يلي على أي الأحوال : يدل بذل الجهد الإرادي على ضعف في الإرادة. إن الإرادة الكاملة تتطلب أن يمضي الإنسان بكليته نحو هدفه، بحسه السوي وعقله وذكائه. فإذا وجدت ميول متناقضة لدينا، فإننا لن نمضي نحو الهدف إلا بجزء من أنفسنا .. وسنبتعد عنه . إن الميول المتناقضة تفصل وحدة شخصيتنا وتجزئ إرادتنا. وعندئذ تكون لنا إرادات جزئية، متشنجة، تعارض الواحدة منها الأخرى .... ونتجه نحو دريئات لا نراها إلا بصورة جزئية.

تلك أم، على سبيل المثال، تتفانى في سبيل أطفالها وتنهك نفسها في العمل. إنها تبذل جهوداً مضنية حتى تفرغ من عملها . فهل تتمتع بالإرادة؟ نعم ، ما دامت «تريد أن تصل». ولكن هل هذه هي الإرادة الحقيقية؟ كلا. تلك هي إرادات مجزأة، متشنجة، منشؤها الإنهاك ومهما كانت روعة العمل الأخلاقي لهذه الأم، فإن قوام إرادتها الحقيقية هو أن تجدد ما يكفي من قواها حتى لا يكون عليها أن تبذل جهداً ..

ينبغي للإرادة أن تكون كالأناقة : لا مرئية .

بأي شيء يذكرك مفهوم الإرادة ؟ . يخطر بالبال :
1 - التشبث : يصمم الإنسان على النجاح ويستخدم بعض الوسائل - ولكن ، ثمة خلط ، على الغالب، بين التشبث الذي هو قدرة متوازنة وبين العناد الذي هو عجز وضعف .
٢ - السيادة على الذات : إنها استعداد للسيطرة على عواطفه وغرائزه ، إلخ. ومن الواجب أن تعرف كذلك إن كان الأمر أمر سيادة حقيقية أو كاذبة .
3- روح التصميم : يجب أن تتصف هذه الروح بالسرعة من غير مغالاة في التردد ولا اجترارات ذهنية. ولا بد كذلك من أن تكون روح التصميم أصيلة، ويظهر الاندفاعي على سبيل المثال، أنه يكشف عن قرارات فائقة السرعة، ومع ذلك، فهو غير ذي إرادة کما ستری.
4- روح المبادرة وذلك هو الاستعداد للشروع في عمل جديد:

تطلب جميع هذه الصفات إذن بعض الشروط فما هي هذه الشروط ؟ ولكي يفهم ذلك فهماً أفضل، أقترح أن نرى الحركة المعاكسة وأن نتفحص معوقات الإرادة .

المثل السائر من بريد، يقدر» معروف إذن. والسواد الأعظم من الناس مقتنعون بحقيقة هذا التأكيد تقريباً ، ويرجع السبب في ذلك إلى أنه لم يسبق لهم أن كان في متناولهم تأكيد آخر. فهم قلما تحققوا من صحته إلا عبر تجارب سطحية مبهمة جداً.

وقد يحدث، مع ذلك، أن يقع هؤلاء الأشخاص مرضى على نحو ما . وثمة صعوبات عديدة تتجلى ، وفي الأمراض السيكولوجية على وجه الخصوص، فتبدأ الظروف العادية جداً تتطلب جهوداً بطولية. وتلك إذن هي اللحظة التي يستنجد فيه المرء بالمثل السائر من برید، يقدر»، ويضعه موضع التطبيق.

ولنتأمل هنا حالة شخص أصيب بالوهن العصبي فجأة (انظر فهرس المادة) . فمرضه يلزمه بأن يشك، ويجتر ذهنياً، ويتردد تردداً يرافقه الحصر، ويمتنع عن الإقدام والتصرف . إنه يفكر عندئذ : لو أردت لقدرت»، وذلك هو، على الأقل، «ما قيل لي دائماً»، وما كان أصدقاؤه، من جهة أخرى يمتنعون عن أن يرددوا ذلك على مسامعه. وها هو ذا، بالتالي يطلق والمثل مستقر في رأسه. فيردده لنفسه طوال نهاره. ماذا يحدث ؟ لا يستجيب الشعار قطعاً .. وعبثاً يقول الشخص لنفسه مخلصاً : «أريد، إذن أقدر». فالأمور تسوء. إنه يكدس الجهود، ويتشنج، ويبحث بالساً عن أن يتغلب على نفسه مستخدماً «إرادته». كل ذلك لا يعطي أي نتيجة إيجابية ، اللهم إلا إنهاكاً يتفاقم بالتدريج .

وعندئذ يتساءل المريض، وقد أصابه القلق، عما إذا لم يكن المثل السائر دعاية لطيفة من اختراع أناس ينعمون بالصحة. وهو بهذا إنما يمس الحقيقة بإصبعه . يلاحظ المريض أمراً مفاده أنه كان قادراً على الفعل الإرادي كأي إنسان آخر عندما كان متمتعاً بالصحة. وها هو الآن أصبح عاجزاً عن الفعل الإرادي . أليست هذه الإرادة إذن مجرد معلول، وأنها تتطلب شروطاً دقيقة لكي تظهر ؟


1708908500396.png
 

View: https://youtu.be/9x0QClg4wU8?si=6c4bu9U_pzjlUyE-

يسأل المذيع الجمهور : هل الأرض كروية أم مسطحة ؟ ينصدم الناس من السؤال، ويؤكدون أن الأرض كروية بسخرية واستخفاف ، وحين يسألهم بجدية أكبر عمّا إذا كان لديهم "دليل" أو "دافع" للاعتقاد بكروية الأرض، اتضح أنهم لا يملكون الدليل وليس لديهم دافع شعوري للاعتقاد بذلك. ورغم هذا لا يزالون يقاومون إمكانية وجود احتمال أن لا تكون الأرض كروية.

إن منشأ هذه المقاومة "نفسي" وليس معرفي ، فمن الواضح أن المجهور العريض من الناس لا يملكون أدنى فكرة عن قوانين الفيزياء الأساسية ، ومع ذلك يحسون بأن الاعتراض على كروية الأرض عمل جنوني، وهذا يعني أن إحساسهم ليس له أساس معرفي.

هنا يكمن الخطر في هذه الظاهرة ، ربما نتقبل تدخل الإحساس والمقاومة النفسية في موضوع لا يضر ولا ينفع الأغلبية ، مثل شكل هذا الكوكب ، ولكن استبدال معايير المعرفة بمنهجية "المعتقدات المسبقة" يعني أن السلطة التي تستطيع زراعة المعتقدات ، تستطيع التحكم بالحياة من دون تدخل مادي أو تقني.

مقاومة المعلومات والنظريات التي تشكك بالمسلمات المسبقة للعقل الجمعي ، لها دلالة مهمة عن كامل السلوك للفرد والجماعة، إذ أنها مقاومة نفسية "لاشعورية" - ردة فعل منعكسة لم تمر بمرحلتي الوعي والقرار.

إذا كان الأمر كذلك بخصوص "شكل الأرض" وهو مسألة نظرية جداً ، فلك أن تتخيل كم من المعتقدات المحشوة في العقل الجمعي تسيطر على الإنسان وتقوض إدراكه ، وبالتالي ، تمنعه من الوصول إلى حرية الإرادة الحقيقية، وهي التوازن ما بين الإدراك والعزم.
 
التعديل الأخير:

أداب الحوار

المرجو إتباع أداب الحوار وعدم الإنجرار خلف المشاحنات، في حال كانت هناك مضايقة من شخص ما إستخدم زر الإبلاغ تحت المشاركة وسنحقق بالأمر ونتخذ الإجراء المناسب، يتم حظر كل من يقوم بما من شأنه تعكير الجو الهادئ والأخوي لسايكوجين، يمكنك الإطلاع على قوانين الموقع من خلال موضوع [ قوانين وسياسة الموقع ] وأيضا يمكنك ان تجد تعريف عن الموقع من خلال موضوع [ ماهو سايكوجين ]

الذين يشاهدون هذا الموضوع الان (الأعضاء: 0 | الزوار: 1)

أعلى