الجزء السادس
أعتذر على الإطالة، ربما البعض نسي المحور الذي وصلنا إليه، لكن الموضوع ليس بذلك الطول فمراجعته سهلة.
بشكل مختصر، عند المجتمعات
الفردانية تعتبر الحرية الفردية هي محور النظرة الأخلاقية، بغض النظر عن كون ذلك مخالف للمجتمع ام لا، حرية الفرد والعدل معه اهم. اما المجتماعات
الجماعية تقدس ترابط المجتمع، فأي شيء يهدد هذا الترابط هو غير أخلاقي، هنا الجماعة اهم من الفرد.
شيء مهم يجب الإشارة إليه، وهو ان النظرة الفردانية شيء جديد وبدأ بالانتشار، لكن ماهي المعايير التي تجعل الشخص يتبع فكرة الفردانية أو المجتمعية؟ من هو الشخص الذي يهتم بحريته وفردانيته ومن هو الشخص الآخر الذي يقدم المجتمع على حرية الأفراد؟
سأذكر امثلة عن أفعال غير أخلاقية، قد تكون غير أخلاقية لأنها غير أخلاقية فقط في مجتمع معين، او انها غير أخلاقية بشكل عام:
تصرف غير أخلاقي في الهند وامريكا:
شخص يركل كلبا نائم في الشارع بلا سبب!
شخص يخلف عن وعده!
تصرف غير اخلاقي في أمريكا فقط وليس الهند:
شخص يضرب زوجته لأنه اخبرها ان تبقى في المنزل ولكنها ذهبت دون اذنه
رجل يرث ابويه على الرغم ان لديه اخت اكبر منه
تصرف غير اخلاقي في الهند فقط وليس أمريكا:
ابن ينادي ابوه باسمه الأول ولا يناديه بكلمة (أبي)
امرأة تكثر من اكل السمك في حين كان زوجها قد توفي للتو.
في باكستان: يوجد قتل حفظا للشرف:
هذا الفديو عن مجموعة من رجال ونساء ظهروا في فديو على الجوال وهم يغنون ويرقصون، عندما انتشر الفديو علم الأفراد بأنهم في مشكلة لأنهم خالفوا النظرة الأخلاقية لمجتمعهم، وهي إهانة لشرف العائلة، بعد عدة أسابيع تم قتل جميع الخمس فتيات اللاتي ظهرن في الفديو، وتم قتل رجلين من اصل لثلاثة الذين ظهروا في الفديو.
عوائل هؤلاء الأفراد لم يتصلوا بالشرطة لأن الشرطة في الغالب ستؤيد النظرة الأخلاقية المجتمعية وهي احترام قوانين المجتمع و عدم الإساءة لهذه القوانين من أجل رغبات ودوافع فردية
برأيك، هل النظرة المجتمعية تبرر قتل الأفراد؟ أم ان حرية الأفراد ضرورية ويجب احترامها؟
من هنا نرى أن بعض الأفعال الوحشية تعتبر جزءا من تحقيق النظرة الأخلاقية في بعض المجتمعات، قتل من اساء الى سمعة عائلته لاستعادة شرف العائلة نتيجة النظرة الأخلاقية المجتمعية السائدة في هذا المجتمع- باكستان هنا.
قتل الشرف من الحالات المتطرفة التي يكون فيها المجتمع واستقراره اهم بقوة من حياة افراد ارادو اللهو والاستمتاع. قتل الشرف في الغالب لن يفهمه ابن تربى تحت النظرة الأخلاقية الفردانية مثل شخص غربي، فالفردانية تهتم بالفرد وتقدمه على رغبات المجتمع.
لكل مجتمع نظرة أخلاقية سائدة عامة ولها اتباعها و مؤييديها، هذه النظرة الأخلاقية قد لا تحترم حرية الأقلية من الأفراد، فقد يكون هؤلاء الأفراد لديهم نظرة أخلاقية مختلفة تماما عن المجتمع.
نعود لسؤالنا الذي بسببه تم ولادة هذا البحث، هل النظرة الأخلاقية تعتمد على تجنب الأذية فقط، بمعنى اذا انا فعلت شيئا لا يتأذى منه احد فهو أخلاقي؟ هل كلام ترويل صحيح، هل محور النظرة الأخلاقية هو تجنب اذية الاخرية؟ لكن هؤلاء الفتية الذين قتلوا في باكستان لم يؤذوا أحدا عندما رقصوا!، هم فقط انتهكوا قوانين مجتمعية موروثة، ومبنية على أساس أخلاقي لا علاقة له بالأذية الجسدية، حرمان نفسي لحفظ شرف عائلة ضمن قوانين موضوعة في المجتمع؟
ماذا عن أيضا اكل لحم انسان توفي؟ لا يوجد ضرر حتى لو شعرنا انه فعل خاطئ، في حال كان مصدر نظرتنا الأخلاقية هو تجنب اذية الاخرين فأكل لحم شخص توفي رضي لي بذلك لن يؤذي أحدا، حتى لو كان هذا التصرف انتهاكا للقوانين المجتمعية فهو يظل غير ضار.
بالنسبة لتوريل اذا كان الفعل لا يضر أحدا مثل اغتصاب دجاجة ميتة وغيره، فهذا الفعل انتهاك للقوانية المجتمعية وليس انتهاكا للنظرة الأخلاقية، فتوريل يرى ان النظرة الأخلاقية فقط في تجنب اذى الاخرين ومن ثم انت حر!!!
لكن شويدر، يرى أن كلام توريل خاطئ، فهناك مجتمعات ترى ان مايعتبره توريل مجرد قانون مجتمعي ليس في الحقيقة مجرد قانون مجتمعي بل هو نظرة أخلاقية، كما شرحنا بالأعلى عن المجتمع الذي يحرم اكل الرجل لفاكهة تشبه العضو الجنسي الانثوي، وأيضا حتى في الغرب لازال البعض يرفض زواج المثليين على الرغم من عدم وجود ضرر منه. فشويدر يرى ان النظرة الأخلاقية اكبر من كونها تتجنب الاذية فقط.
هناك جاء عملاق ثالث اسمه، جوناثان هايت، يمكنكم البحث عن محاضرات له في اليوتيوب فهو من هذا العصر
(Jonathan Haidt)
سأل جوناثان سؤالا مفصليا، قال: " هل يوجد اشخاص اختاروا نظرة أخلاقية تحرم افعالا هم بأنفسهم يؤمنون ويرون ان هذه الأفعال لا تؤذي احد؟"
بهذا السؤال أراد جوناثات التحقق من هل يستطيع الافراد أصلا التمييز بين ما هو قانون مجتمعي وماهو قانون يتبع نظرة أخلاقية؟
قبل الإجابة سأضع بعض من الأمثلة التي قد تستفزكم، اريدكم ان تحكموا بين أنفسكم على هذه التصرفات، هل هي غير أخلاقية، هل هي فقط تعدي على قوانين مجتمعية وليس لها علاقة بالنظرة الأخلاقية؟ هل هي مؤذية أصلا؟
1)خالد يعيش وحده، كل أسبوع يذهب خالد الى البقالة ويشتري دجاجة مجمدة، لكن قبل ان يأكلها يقرر خالد ان يمارس الجنس مع الدجاجة المجمدة وبعد ذلك يطهوها يوأكلها، يتأكد خالد ان الدجاجة أصبحت نظيفة قبل اكلها.
2) كريستينا تعمل في معمل تشريح الجثث، بعد التشريح يتم حرق الجثة. في يوم من الأيام رأت كريستينا انه من التبذير ان يتم حرق اللحم البشري، فقررت اخذ قطعة منه الى المنزل، طهت كريستينا اللحمة ولم يعلم احد بذلك.
الآن لنعد الى جوناثان وبحثه، اكتشف جوناثان انه كلما كان الشخص متعلما، كلما اصبح يميز بين ماهو أخلاقي وما هو فقط قانون مجتمعي. بمعنى ان الذين يمتلكون نظرة أخلاقية فردانية ( المتعلمين )هم الذي يميزون بين النظرة الأخلاقية و القوانين المجتمعية.
أيضا وجد جوناثان ان هؤلاء المتعلمين عندما يتم عرض لهم شيء فيه انتهاك لحرمة ما ولكن في نفس الوقت لا احد يتضرر منه، يبدأ هؤلاء المتعلمين بخلق قصة فيها احد يتأذى، لكي يبررون ان هذا الفعل غير أخلاقي، فهؤلاء المتعلمين يميلون الى جعل النظرة الأخلاقية في تجنب اذية الاخرين.
لنفصل اكثر، عندما يتم عرض كريستينا ومعمل الجثث على احد المتعلمين، سيبدأ هذا الشخص باختلاق الأذية وانه هناك ضرر في تصرف كريستينا ليبرر ان تصرفها خاطئ.
فجوناثان يقول، انه هناك شعور في البطن يقول لنا انه هناك شيء غير أخلاقي وخاطئ هنا، هناك شعور في الجهاز الهضمي يرفض ذلك، ومن هنا يبدأ المتعلم بخلق قصة فيها اذية لتبرير هذا الشعور.
فقصة كريستينا لو عرضت على احد غير متعلم ويتبع القوانين المجتعية، سيرفض هذا التصرف دون الحاجة الى التبرير والشرح، سيقول انه عكس الفطرة الخ.. دون الحاجة الى خلق سيناريو فيه اذية مخترعة لتبرير تجنب الفعل.
اما المتعلم فسيقول انه غير أخلاقي على الرغم من عدم وجود اذية لأحد فعليا، ولكن هناك شعور في داخلنا يرفض ذلك ومنه نبدأ بموافقة شعورنا مع رغبتنا بتجنب اذية الاخرين، فيخترع المتعلم قصة فيها اذية.
نتيجة جوناثان هي ان شويدر كان محق وتوريل خاطئ. هناك شيء اعمق للنظرة الأخلاقية بحيث انها اكبر من كونها تهتم فقط بتجنب الأذى.
الملخص الحالي:
بالنسبة لبياقيت و كولبرج : النظرة الأخلاقية تتطور مع تطور مقدرة الطفل على التحليل والاستنتاج.
بالنسبة لتوريل: النظرة الأخلاقية تتمحور حول تجنب اذية الاخرين، وكل ماهو غيرها مجرد قوانين مجتمعية
بالنسبة لشويدر وجوناثان: النظرة الأخلاقية لها محركات أخرى غير تجنب اذية الاخرين فقط، هي اعمق من ذلك، وأيضا كلما كان الشخص متعلما كلما اصبح يميز بين القوانين المجتمعية والنظرة الأخلاقية.
انتهت السلسلة الأولى بسلام ولله الحمد.
يُتبع...