هناك عدد محدود للقراءات المسموح بها للزوار

[2] هو عدد القراءات المتبقية

من مؤلفات رينيه جينو – الشيخ عبد الواحد يحي – متجدد

المشاركات
333
مستوى التفاعل
1,020
إذا اعتبارنا كتب الاستاذ علاء الحلبي مدخلا اساسيا للقارئ العربي الى المعارف التجاوزية و الروحية و العلوم الغامضة ، حيث قام الكاتب بطريقة سلسة و مرنة بنشر بحوث عديدة حول مواضيع جدلية لا زالت تثير الكثير من الأسئلة، فإن مؤلفات الكاتب رينيه جينو تمثل مدخلا ايضا لكن من نوع اخر و على مستوى مغاير، فهي على الغالب لن تكون مثيرة للاهتمام لمن يبحث عن متعة المطالعة فحسب ، لأنها ليست بسطا او تبسيطا علميا لأفكار معينة، بل كتابات الهامية كما يصفها المهتمون بها تستوجب حضورا ذهنيا متواصلا، بل ربما لا يمكن فهمها تماما إلا لمن تعرف مسبقا على العلم التلقيني ...
إخترت ان اضع هذا الموضوع مبدئيا في قسم الفلسفة و الثيوصوفيا – رغم أن الكاتب قام بنقدهما في اكثر من مقال - في انتظار نقله يوما الى قسم التراجم و الكتب، اذا ما وجدنا صيغة ما لرفع المؤلفات، لهذا سيكون هذا الموضوع بمثابة التعريف ببعض مؤلفات جينو خاصة المترجمة حديثا للعربية، او نقل بعض المقالات التي كتبت حوله او حول مؤلفاته.
 
التعديل الأخير:
هيمنة الكم وعلامات آخر الزمان

1547999680649.png

يتألف هذا الكتاب من مقدمة وأربعين فصلاً، وهو من أبرز مؤلفاته وأشدها إثارة وقد كان له أثر بالغ في فكر أجيال من العلماء والمثقفين سواء في الغرب أو في الشرق
القسم الأول من الكتاب وضح فيه عدة مفاهيم أساسية في المعرفة والأخطاء الحديثة في شأنها، كمعنى الكيف والكم، وحقيقة التجليّ والظهور، والزمان والمكان والمادة، ثمّ خصص فصوله الأخرى لتشخيص ظواهر التخريب الروحي والإنحراف العقائدي والفكري، وقلب الحقائق ومسخ القيم في المجتمعات المعاصرة، وهي الظواهر المميزة للمجتمع البشري في آخر الزمان كما هو مسجل في كلّ الكتب الإلهية. وفي الأبواب الأخيرة تفصيل للمراحل الممهدة لظهور الدجال وهيمنته القصيرة على العالم ومملكته الزائفة ونهايتها على أيدي القوى الربانية
 
مدخل عام إلى فهم النظريات التراثية

1547999739001.png
في هذا العمل الغير مسبوق قام رينيه جينو باكتشاف الحقائق الميتافيزيقة التي هي أساس "التراث الأول" الواحدـ التراث الذي تشترك فيه الحضارات الانسانية التقليدية الكبرى
 
ملك العالم
1547999818033.png
كانت نقطة البداية ل"ملك العالم" الغامض الذي يدير الشؤون الروحية للبشرية من مكان (تحت الأرض) التي لا يمكن الوصول إليه للناس العاديين: أغارتا. لقد وضع جينو في كتابه مفهوم التقليد الاولي: الحقيقة الفريدة التي ترتكز ، وفقًا له ، على جميع التقاليد الروحية لدورة الإنسانية وطورت الأطروحة التي ينطبق عليها عنوان ملك العالم ، وكتب أن جميع التقاليد تتحدث عن "الأرض المقدسة" وكل هذه الأراضي هي صور لنموذج أولي "للأرض مقدسة" ، فكانت أغارتا واحدة من أسماء هذه الأرض المقدسة
 
التعديل الأخير:
رموز العلم المقدس

1547999934447.png

من النادر ان يجمع شخص مثل هذا المؤهل العلمي و الموسوعي لتأليف كتاب يحتوي على الكثير من التفسيرات المضيئة للرموز التقليدية و الروحية الأكثر تنوعًا. كتاب أساسي لجميع من يطمح إلى توسيع و اثراء معرفته في هذا المجال المثير
 
أزمة العالم الحديث

1548074880975.png
واحد من أهم مؤلفات غينون العديدة التي ينتقد فيها الحضارة الغربية الحديثة ، بل إن كلمة نقد تبدو مخففة جداً إذ أنه في هذا العمل يقوم بتهديم الأسس الفكرية للوجود الحديث بأكمله ، فهو يحدد أولاً الوجود الحديث على أنه مرحلة متقدمة جداً من مراحل الانحطاط الوجودي الكوني ، فالإنسانية الحديثة تعيش في عصر الظلام " كالي يوغا " الذي يمثل المرحلة الأخير في الدورة الوجودية و الذي يصل فيه الوجود إلى أبعد نقطة ممكنة عن حالة الكمال الأولى . هذا هو مدخل غينون لتقيم العالم الحديث و هو مدخل يصدم مباشرة زهو و غرور الحضارة الحديثة التي و ضعت نفسها في أعلى و أرفع درجة في سلم الحضارات
يتمحور هذا الكتاب بفصوله التسعة حول محورين بيّنهما المؤلف في مقدمته:
الأولى: أنّ هذه الحضارة احديثة لا تحتل مكانة مميزة في تاريخ العالم، وأنّه من الممكن أن تلقى المصير نفسه لحضارات أخرى اختفت عبر أزمنة تتفاوت في قِدَمها، وأنّ بعضها لم يخلّف سوى آثار ضئيلة وبقايا تكاد لا ترى أو لا يمكن التعرف عليها إلا بصعوبة
الثانية: أنّه ليس من سبب للاكتفاء بالفوضى والظلام الذي يبدو للحظات أنّه انتصر
إنّ المؤلف من خلال استقرائه للأسس التي اعتمدت عليها الحضارة الغربية، يحاول إثبات دخولها في أزمات متعدّدة؛ ليستنتج منها تحقق انهيارها كسائر الحضارات

بعد إثبات هذه الظاهرة نصل بشكل طبيعي إلى عدم وجود أيّ مبرّر لمتابعة هكذا حضارة منهارة وخاوية، بل الأولى التمسّك بالتراث والمدرسة التقليدية والرجوع إلى الحكمة الخالدة والعلم القدسي المنضوي في تعاليم المدارس التقليدية السابقة


هذا الكتاب هو تكملة لسياق كتاب شرق و غرب الذي الفه قبله بسنوات

1548074890662.png
 
التعديل الأخير:
رمزية الصليب

1548000050407.png
تأخذ رمزية الصليب المفاهيم العقائدية للإنسان ومصيره لفيدانتا عن طريق ربطها بنظرية الرمز ، التي تمحورت هنا على رمزية الصليب. وبحسب جينو ، فإن الصليب هو ، في الواقع ، رمز الكائن الذي تم ذكره في النهاية والذي تم تسميته باسم الانسان الكوني او الكامل عند الصوفية. وبسبب هذا المعنى الرمزي يصبح الخط الافقي للصليب ممثلا للارتقاء و الرفع الروحي عن طريق خطه العمودي . تطرق جينو الى العديد من جوانب هذه الرمزية من خلال دراسة العديد من التقاليد الروحية.
 
التعديل الأخير:
رينيه غينون و التقليدية التكاملية ( 1 )
محمد عادل شريح
الملتقى الفكري للابداع




. القسم الأول (1)

مقدمة لا بد منها
قبل أربع سنوات من الآن، عرض علي أحد أصحاب دور النشر في مدينة حلب (هي: دار فصِّلت للدراسات والترجمة والنشر) أن أقدم لكتاب سيترجم للمفكر الفرنسي المسلم "رينيه غينون" المعروف في العالم الإسلامي باسم " الشيخ عبد الواحد يحيى" و هو كتابه "أزمة العالم الحديث" و قد أبديت كامل استعدادي لتحقيق هذه الفكرة لآني كنت أعلم مدى أهمية هذا المفكر الكبير و ضرورة أن يطلع مثقفينا في البلاد العربية على آثاره و مؤلفاته، و لخدمة هذا الغرض فقد أعددت دراسة مسهبة حول الرجل و مؤلفاته و منظومته الفكرية أسميتها " رينيه غينون و التقليدية التكاملية" و قدمتها إلى دار النشر هذه، وقمت كذلك بالتعاون مع المترجم بمراجعة النص المترجم للكتاب من اللغة الفرنسية و تنقيحه إلى أن أصبح جاهزاً للطباعة.
لكن الغريب في الأمر أن هذا الشخص الذي كان من أشد المتحمسين لنشر الكتاب صار يماطل و يختلق الأعذار عن نشره، و الحقيقة أنه قد ساءني تسويفه و تهربه لكنني لم أكن أملك أي حق قانوني لمطالبته بأي شيء ذلك لأننا، و كما كنت أعتقد، كنا نعمل لخدمة فكرة مشتركة و لم يكن بيننا أية اتفاقات واضحة سوى اعتقادي بانتمائنا إلى مرجعية أخلاقية واحدة.
المفاجئة كانت أن هذا الناشر، قام بعد أربع سنوات بنشر دراسة عن المفكر الفرنسي رينه غينون في كتاب له أسماه " من ينابيع التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر" حيث أن هذه الدراسة تستند إلى حد كبير إلى الدراسة التي قدمتها له و تنقل عنها نصوصاً كاملة دون إشارة واضحة إلى أن هذا كلام منقول عن نص آخر، سوى إشارة في بداية هذا الكتاب إلى أنه أفاد كثيراً من بحثي المخطوط ، هذا البحث المخطوط الذي قدمته له من أجل النشر لا من أجل أن يستفيد منه في " فبركة" بحثه الخاص، و الأهم من ذلك أنه أبقى هذا الأمر سراً عني و لم أعلم أي شيء عن الموضوع إلا بعد صدوره و توزيعه في المكتبات، و في هذا إقرار كاف منه، بالنسبة لي، على عدم مشروعية ما قام به، فالإثم، كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم، ( هو ما حاك في الصدر و خشيت أن يطلع عليه الناس) .
عندما اطلعت على الكتاب و قرأته وجدت أنه قد أضاف إلى النصوص المنقولة عن الدراسة التي أعددتها و عن نصوص أخرى قليلة ، أشياء من عنده و من بنات أفكاره ، أو أنه قد عبر عن بعض هذه الأفكار بطريقته الخاصة و يا ليته ما فعل هذا و لا ذاك، و يا ليته نشر النص كاملاً باسمه الخاص لكان حزني و أسفي أقل، لأنه قد شوه أفكار هذا المفكر العظيم، أو أنه قدمها منقوصة مبتورة في أفضل الأحوال،و ليس ذلك بالمستهجن أو الغريب، فهو ببساطة لم يقرأ أعمال غينون لأنها غير متوفرة باللغة العربية، و هو لا يجيد أي لغة أجنبية، و مع ذلك لم يجد هذا المتطفل بأساً من أن يقدم للقارئ ما يجهله هو نفسه ، بل أنه لم يجد بأسا و لا غضاضة في أن يقوم بتصحيح و تعديل بعض آراء الشيخ عبد الواحد يحيى من خلال ما أسماه مقاربات إسلامية مع الديمقراطية و غيرها من مقدمات الحداثة الغربية.
أن أعمال المفكر الكبير رينه غينون المعروف في الغرب على أنه أحد أهم أعلام التصوف الإسلامي في العصر الحديث ، لا تترجم في الغرب إلى أية لغة أخرى إلا بأشراف من لجان تابعة لجمعيات متخصصة تعرف باسم " الجمعيات الغينونية" و ذلك حرصاً على أن لا يتم فيها أدني تحريف أو تغير. و ما ذلك بغريب نسبة إلى مكانة هذا المفكر، و لا هو غريب بالنسبة للصادقين الشرفاء من أهل الفكر، أما التجار من صغار الكتبة فشأنهم شأن آخر.
إنه لمن العجب العجاب لكل من يملك أدنى معرفة بالشيخ الكبير عبد الواحد يحيى أن ُيقدم في سياق واحد و في سلسلة من المجددين و المصلحين، كما يزعم صاحبنا، تبدأ من رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده و تنتهي بالشيخ محمود عكام ، في حين أن الشيخ عبد الواحد لا ينتمي إلى هذا السياق أبداً. و إنه لأمر عجيب أن يقدم للقارئ العربي على أنه من ينابيع التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر في الوقت الذي كان الهدف الأساسي لكتبه كلها هي توضيح الثابت و المبدئي و الأساسي الغير قابل للتجديد أو التبديل في كل المنظومات العقائدية التقليدية.
و إنه لمن العجب العجاب، أن يقوم أحد ما بمحاولة الربط و التوفيق بين آراء الشيخ عبد الواحد يحيى الرافضة لأسس و منطلقات الحداثة الفكرية منها و الاجتماعية السياسية مع فكرة المساواة و الديمقراطية اللبرالية، و ذلك بمعارضة آراء الشيخ ببعض ما كتبه مفكرين محدثين في المساواة و الديمقراطية في الإسلام. و لعله من رحمة الله بالشيخ أنه لم يعش ليقرأ في بحث عنه كلاماً من نوع أن " المشروع الديمقراطي الذي وضعه الإسلام قد أخذ طريقه للتحقق في زمن الرسول صلى الله عليه و سلم و في عهد الخلفاء الراشدين و في هذه الفترة وضعت الأصول النفسية كلها التي تقدم ذكرها، تكملها و تدعمها مقدمات جديدة لتكون الأساس المعنوي للديمقراطية الإسلامية" نعم إن هذا هو العجب العجاب.
لا نريد هنا أن نعترض على آراء هذا الناشر بالنسبة للمفاهيم الديمقراطية و المساواة الغربية و توصيفاته " التي تتجاوز المعضلات التي وقفت في وجهه الديمقراطية التي انتقدها غينون" كما يقول، و لا نريد أن نعترض أو نناقش آراء من يستشهد بأقوالهم، فليس هذا هو ميدان ذلك، لكن اعتراضنا و سؤالنا هو: ما دخل الشيخ عبد الواحد يحيى بهذا الكلام؟
الحقيقة أن كاتبنا و كما يشير هو في بداية كتابه، خريج مدرسة شرعية، و قد تلقى تعليماً أصولياً ولكنه يتمسح بأفكار الحداثة الغربية ليتجمل بها، و يشعر بعقدة نقص تجاه الغرب و تجاه ما أنتجه هذا الغرب من أفكار،و لا بد أنه قد شعر بخجل أنثوي عندما رأى الشيخ عبد الواحد يحيى ينقض بنيان الحداثة حجراً حجراً، فما كان منه للخروج من مأزقه هذا إلا أن قام بمحاولات اعتراض آراء الشيخ ببعض الكلام المرصوف، ليحقق مصالحة مستحيلة بين الإسلام كأهم المنظومات التقليدية الحية و مقدمات الحداثة الغربية التي عمل الشيخ طوال حياته على نقضها.
لذلك و حفاظاً على أن يتم تقديم الشيخ عبد الواحد يحيى بصورة نزيهة عادلة تعطي لهذا العارف الكبير حقه، و تعطي للآخرين الحق في التعرف عليه بصورة تعبر عن حقيقته ليقوم بعد ذلك من يشاء بقبوله، أن يقبله، و من يشاء برفضه، أن يرفضه و لكن على بينة، دون مقاربات حداثية ديمقراطية مزعومة. و قد كنت قد عقدت النية على إعداد بحث جديد عن فكر الشيخ، و نشر ذلك مع ما يمكن ترجمته من بعض النصوص في كتاب مستقل، و لا زلت على هذه النية لكني أرى من المناسب الآن نشر هذا العمل سريعاً ليتاح لكل المهتمين من أصدقاء لي و غيرهم الاضطلاع علية و الاستفادة منه، و أشكر أصدقائي في " الملتقى الفكري للإبداع " الذين و فروا لي فرصة النشر السريع لهذا البحث ، حرصاً على النزاهة و الصدق في الأمور العلمية و الفكرية.
حلب في: 23/4/2005
------------------------------------

(نص الدراسة)

" إن ظاهرة غينون هي الأعجوبة الفكرية الأكبر
منذ نهاية العصور الوسطى في أوروبا " .
ميشيل والزان صديق غينون و أحد تلاميذه
في عتمة القرن العشرين المظلم بماديته التي تسير بالإنسانية نحو الهاوية بتسارع يتناسب طرداً مع الأرقام الجديدة في عالم السرعة. في هذا القرن الضائع في متاهات فرويد الليبدوية ، و وجودية سارتر العدمية ، و مادية ماركس الجدلية و غيرها من الصيحات الحديثة في عالم الفكر ، تبدو ظاهرة غينون و كأنها حقاً أعجوبة لا تصدق . ففي قلب الحضارة الحديثة التي أخرجت الروح نهائياً من عالم الإنسان ، جاء هذا الفرنسي النحيل ليشعل شمعة للروح في قلب أوروبا المثقلة بأوزار المادة و ليعيد الاعتبار إلى الحضارة التقليدية ، حضارة الروح و المقدس في زمن الابتذال والكذب و التضليل .
ولد رينيه جان ماري جوزيف غينون في 15/ 11/ 1886م في مدينة بلوا الفرنسية، و كان أبوه مهندساً معمارياً ، و قد تميز غينون منذ طفولته بذكائه الحاد و صحته الرديئة . و قد أكمل دراسته في مدينته التي ولد فيها حيث حصل على درجة بكالوريوس في الفلسفة ، ثم غادر إلى باريس بنية متابعة الدراسة ، لكنه و لأسباب عديدة لم تكن صحته السيئة آخرها ، لم يكمل دراسته و انتهت حياته الأكاديمية عند هذا الحد.
مع بدايات القرن العشرين كانت مرحلة الفلسفات الكبرى في الغرب و التي بدأت مع ديكارت قد انتهت و بدأت مرحلة جديدة افتتحها الإنجليزي جورج مور بفلسفته التحليلية نحو تفكيك ما قد تراكم من إرث فكري ، دون أن تقدم هذه التجربة أي شيء من يقين أو طمأنينة فكرية . و قد أدى هذا الحال بالكثيرين للبحث عن اليقين في مصادر أخرى ، كانت مجموعة من الجمعيات السرية التي تدعي امتلاكها لحقائق ميتافيزيقية و لطرائق المعرفة الكشفية أهمها .
في هذه الأجواء التي خيمت على مدينة باريس في بداية القرن ، هذه المدينة التي كانت مركزاً للعديد من هذه الجمعيات التيوصوفية و غيرها ، وجد غينون نفسه فراح يتعرف على هذه الجمعيات واحدة تلو الأخرى و استطاع أن ينسج علاقات شخصية مع ممثلي هذه الجمعيات جميعاً ، لكنه سرعان ما أدرك زيف ادعاءاتها فصار يهاجمها علناً و يفند كل الادعاءات السخيفة و الخيالية التي تطلقها دون أي أساس من الصحة ، هذه الانتقادات التي ضمنها بعد ذلك غينون في كتابه القيم " التيوصوفيا ، تاريخ إحدى الديانات المزيفة " و كتاب " أوهام الروحانيين " .
لقد فنًد غينون في هذان الكتابان ادعاءات ما يسمى بتيار " الروحانية الجديدة " بدءً من بالافيتسكايا الروسية وصولاً إلى بابيوس رئيس جماعة المرتينيين في باريس و الذي كان غينون على معرفة شخصية به ، لقد كانت انتقادات غينون لهذه التيارات الزائفة مفيدة لكل الباحثين عن الحقيقة ، ذلك أنها أغنت الكثير من أصدقائه و أتباعه عن الخوض في مثل هذه التجربة المحبطة والمخيبة، إلا أن الأهم من ذلك هو إطلاع غينون المباشر على الدور السلبي و الخطير الذي تقوم به هذه الجمعيات السرية في الحياة الفكرية و الروحية و الاجتماعية الحديثة .
كذلك تعاون غينون أثناء إقامته في باريس مع صاحب مجلة " فرنسا المعادية للماسونية " كلارن دي لاريفا ، و قد انتقد غينون " الماسونية " في هذه المجلة و أنتقد كذلك كل الآراء الساذجة والسطحية التي تسود في الأوساط المعادية للماسونية ، التي تجهل حقيقة هذه الجمعية والتحولات العميقة التي طرأت عليها عبر التاريخ و جعلت منها إحدى أخطر الجماعات السرية في العصر الحديث .
المحطة الخيرة في رحلة غينون في بحثه عن الحقيقة كان عنوانها التوجه إلى الشرق ، هذه المحطة التي حددت المعتقدات و الآراء النهائية لغينون، و قد لعبت شخصيات ثلاث أدواراً أساسية و مهمة في هذا التوجه ، هذه الشخصيات هي :
_ ليون شامبريينو، و هو مثقف فرنسي اعتنق الإسلام وسمى نفسه "عبد الحق" .
_ الغراف ألبير بيويو ، و هو فرنسي كان قد اعتنق العقيدة التاوية ( عقيدة صينية قديمة جمعها لاو تسي في كتاب التاو ) و له علاقات وطيدة مع ممثلي هذه العقيدة في الصين ، و قد صار يعرف هناك باسم " ميتغي يوي " أي " عين النهار " .
_ الفنان السويدي ، إيون غوستاف آغلى ، المسلم المتصوف الذي أخذ التصوف عل يد شيخ الشاذلية المعروف عبد الرحمن عليش ، و صار يعرف باسم " عبد الهادي " .
لقد كان ألبير بيويو مدخلاً استطاع غينون من خلاله التواصل مع ممثلي عقيدة التاو و الحصول على أسرارها ، أما السويدي " عبد الهادي " فقد كان مرشده في عالم التصوف الإسلامي . ولم يعرف حتى الآن الطريق الذي حصل به غينون على معارفه العميقة و الشاملة للميتافيزيقا الهندوسية ، هذه المعرفة العميقة التي عكستها كتابات غينون التالية " مقدمات عامة في فهم العقائد الهندوسية " "الإنسان و تكونه تبعاً للفيدا " " أوجه الوجود المتعددة " .
لقد كان لتعرف غينون على الشرق و عقائده من خلال الشخصيات التي تم ذكرها دوراً هاماً في القرار الأكثر حسماً في حياة رينيه غينون ، ففي عام 1912 قام غينون باعتناق الإسلام و سلوك طريق التصوف على يد عبد الهادي " إيون غوستاف آغلي " ليصبح معروفا بعد ذلك في عالم التصوف الإسلامي الشاذلي تحت اسم " عبد الواحد يحي " . أن اعتناق غينون للإسلام لم يمنعه من المشاركة في الحياة الفكرية و الروحية لوطنه الأصلي ، بل إنه و بعد اعتناقه للإسلام يقوم بنشر مجموعة من الأبحاث في الدفاع عن الكاثوليكية ، و لن يكون هناك سبب للاستهجان عندما يتضح لنا موقف غينون من الأديان بشكل عام ، لقد كان غينون يرى في الكاثوليكية الخيار الوحيد أمام الغرب الأوروبي لإنقاذ نفسه من ظلمة العالم الحديث المادية ، و كان يحث أتباعه من المسيحيين الكاثوليك لبذل كل الجهود من أجل إحياء أسرار العرفان المسيحي كخطوة ضرورية لإحياء و بعث المسيحية في أوروبا .
في العام 1927 يسافر غينون إلى الجزائر لتدريس مادة الفلسفة و لترسيخ معارفه في اللغة العربية من ثم ليعود إلى مدينة الأصلية بلوا و يقوم بتدريس الفلسفة هناك ، و في هذه الفترة يقوم غينون بنشر أعماله التالية : " الشرق و الغرب " " أزمة العالم الحديث " " ملك العالم " و " السلطة الزمنية و السلطة الروحية " .
في الخامس من آذار عام 1930 يغادر غينون فرنسا إلى مصر حيث يبقى هناك إلى حين وفاته في السابع من كانون الثاني 1951 . و خلال هذه الفترة يعيش غينون أو الشيخ عبد الواحد يحي في مصر حياة الصوفي المسلم التقليدية حيث يقضى معظم أوقاته في المسجد مشغولاً بالذكر و العبادة ، إلا أنه مع ذلك يحرص حرصاً شديداً على عدم قطع صلاته مع أوروبا ، ففي هذه الفترة بالذات يكتب غينون بالفرنسية أعماله الأساسية " أوجه الوجود المتعددة " " مملكة الكم و علامات الزمن " " رمزية الصليب " " الثلاثية العظمى " .
على الرغم من بعد الشيخ عبد الواحد يحي عن أوروبا و رغبته عن الشهرة لصالح الحياة البسيطة التي اختارها ، إلا أن الاتجاه الفكري الذي شقه كان يجد له أتباعاً متحمسين في إطار النخبة الثقافية الأوروبية و خاصة في فرنسا ، و قد صار من أتباعه و تلامذته المباشرين الأكثر شهرة : ميشيل والزان ، فريتوف شون ، توتوس بوكهارت ، ماركو باليًس ، رينية آليار ، أندريه برو و غيرهم . و بشكل مستمر كان تأثير غينون يزداد في الأوساط الأكاديمية فقد تأثر به و بأعماله أسماء مهمة في الوسط الأكاديمي ، نذكر منها مرسيا إلياد و هنري كاربين . أما في أوساط الفن و الأدب فربما يكون اندريه جيد و اندريه بريتون أشهر المتأثرين بأعمال غينون ، لقد قال اندرية جيد بعد قراءته أعمال غينون : " إذا ما كان غينون على حق ، فإن أعمالي و كل حياتي هي شيء بلا معنى "و أضاف في مرة أخرى " لو أني قرأت غينون في فترة الشباب لكنت عشت حياتي بطريقة أخرى " .
لقد ترجمت أعمال غينون و مؤلفاته إلى كل اللغات الأجنبية الأساسية ، و إنه لمن المؤسف حقاً أن تفتقد المكتبة العربية هذا التراث الفكري الهام ، و لعل ترجمة و نشر كتاب " أزمة العالم الحديث " تكون الخطوة الأولى نحو نشر مؤلفاته و تعريف القارئ العربي على هذا الفرنسي الذي أعلن للعالم أجمع في زمن الهيمنة الحضارية الغربية الحديثة أن الشرق هو النموذج و المثال و هو ملجأ الإنسانية المتبقي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .
إن الكتاب الذي بين أيدينا " أزمة العالم الحديث " هو واحد من أهم مؤلفات غينون العديدة التي ينتقد فيها الحضارة الغربية الحديثة ، بل إن كلمة نقد تبدو مخففة جداً إذ أنه في هذا العمل يقوم بتهديم الأسس الفكرية للوجود الحديث بأكمله ، فهو يحدد أولاً الوجود الحديث على أنه مرحلة متقدمة جداً من مراحل الانحطاط الوجودي الكوني ، فالإنسانية الحديثة تعيش في عصر الظلام " كالي يوغا " الذي يمثل المرحلة الأخير في الدورة الوجودية و الذي يصل فيه الوجود إلى أبعد نقطة ممكنة عن حالة الكمال الأولى . هذا هو مدخل غينون لتقيم العالم الحديث و هو مدخل يصدم مباشرة زهو و غرور الحضارة الحديثة التي و ضعت نفسها في أعلى و أرفع درجة في سلم الحضارات الإنسانية ، بل أنها لا تتوانى عن اعتبار كافة الحضارات السابقة لها مراحل في طريق الوصول إليها .
يتركز اهتمام غينون في هذا العمل على المنطلقات الفكرية للحداثة ، فهو يتعرض للفردية و العقلانية و التقدمية و غيرها من الثوابت الفكرية الحديثة ، كما يعقد مقارنة بين العلوم الحديثة الدنيوية و العلوم التقليدية ، و يوضح حقيقة التقابل فيما بين الشرق و الغرب . لكن و بالرغم من ذلك فإننا لا نستطيع أن نتلمس عمق التناقض فيما بين الفكر التقليدي و الحداثة إلا من خلال تعرفنا على المنظومة الفكرية التقليدية كاملة كما شيد غينون صرحها النظري في العصر الحديث ، لذلك فإننا نرى أن أفضل تقديم يخدم قارئ هذا الكتاب هو تقديم عرض مختصر لآراء غينون التي صارت تعرف باسم التقليدية التكاملية .
----------------

1. التقليدية التكاملية و العصر الحديث
هل عناك علاقة ما بين التقليدية التكاملية و الحداثة ؟
إن العلاقة الوحيدة التي تربط فيما بينهم هي علاقة النقيض بنقيضه ، فالفكر التقليدي هو النقيض الشمولي لكل ما هو حديث وهو يدعو للعودة إلى قيم الحضارة التقليدية المقدسة التي يشكل العالم الحديث نفيها و نقيضها ، و هذه إحدى الأسباب التي تجعل من هذا الفكر فكراً نخبوياً لا يتقبله في عصرنا إلا القلة القليلة التي تؤهلها فطرتها السليمة لأن تعايش بشكل يومي آلام الخواء الروحي و جحيم الغربة الإنسانية في زمن الابتذال المادي و قيم السوق و ثقافة الجنس ، في زمن تقدم فيه المزيف إلى الصفوف الأولى و تراجع الحقيقي إلى ما وراء الأفق ، في زمن قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "سنينه خداعه، يتهم فيه الأمين ويؤتمن فيه المتهم و ينطق فيه الرويبضه"(2)، و هو السفيه يتحدث في أمور العامة ، و ما أكثر سفهاء و جهلاء هذا الزمن الذين يتحدثون و يقررون في شؤون الفكر و المجتمع .
و لكن قبل أن نتحدث عن موقف الفكر التقليدي من العالم الحديث ، علينا أن نبدأ بتوضيح معنى التقليدية التكاملية .
إن التقليدية كما قدمها غينون هي مجموع المعارف الإلهية التي قامت على أساسها كل الحضارات بدأ من حضارة العصر الذهبي الأولى وصولاً إلى حضارات العصور الوسطى سواء منها المسيحية أو الإسلامية أو البوذية أو الكونفوشوسية . إنها القانون الإلهي الكلي و الشمولي الذي تنتظم في إطاره جوانب الحياة المتعددة من ديانات و علوم ومعارف و منظومات قيم و أشكال وجود وأنماط حياة، بل إنه القانون الذي يتجاوز الوجود الإنساني الأرضي ليشمل الوجود الكوني ، إذ لا وجود لأي شيء خارج الحقيقة الإلهية ، و التقليد هو المعطى الوجودي الذي ينبثق عن هذه الحقيقة .
إن الوجود الكوني بأكمله يبدأ من الحقيقة الواحدة الأولى التي ينتظم الوجود بعدها في نظام تراتبي تخضع فيه مستويات الوجود المختلفة بحقائقها الفرعية إلى الحقيقة الأولى و تستمد منها وجودها ، و بمقدار ابتعادنا في هذا النظام التراتبي عن نقطة المركز ننحدر مبتعدين عن الحقيقة وصولاً إلى الدرك الأسفل من الوجود حيث الفوضى والضياع و الزيف القائمين في أسفل الوجود دون أن يشكل هذا الزيف قطباً موازياً للحقيقة المطلقة .
و لا يختلف الحال في الوجود الأرضي الإنساني عما هو عليه الحال في الوجود الكوني ، ذلك لأن الوجود الإنساني لا يشكل مجرد إضافة كمية لهذا الوجود الكوني الشاسع ، إنما هو نموذج مصغر للوجود يختزل في هيكليته هيكل الوجود العام ، حيث الحقيقة الأولى التي ينتظم حولها الوجود الإنساني، هي الحقيقة التقليدية البدئية الأولى التي تمثل مجموع حقائق الوجود الإنساني الثابتة الغير خاضعة للزمان أو المكان و التي تشتمل على كل ما تتضمنه دورة الحياة الإنسانية من منظومات دينية أو فكرية أو أحداثاً تاريخية أو غيرها ، مع بقاء هذه الحقيقة الأولى على مستوى الجوهر في حالة من الثبات و عدم التغير ، على الرغم من تحققها على مستوى الصيرورة و الظهور في التاريخ تدريجياً و على مراحل .
أما المستوى الثاني من حقائق الوجود الإنساني التطبيقية و التي تتبدى عبر الزمان و المكان ، فتمثل مجموع النظم العقائدية و الدينية الأصيلة التي و إن بدت متباينة و مختلفة في ظاهرها فهي في الباطن تقود إلى ذات الغايات و الأهداف إذا ما تمثلناها حتى النهاية . و هذا هو معنى التكاملية الذي استطاع غينون بفضل معارفه الموسوعية و العميقة للأديان و العقائد و المنظومات الفكرية التقليدية الحية منها و الميتة ، و من خلال تحليله للرموز و الأساطير المختلفة لدى الشعوب ، أن يظهره معلناً وحدة الحقيقة التقليدية و تكاملها في هذه المنظومات المختلفة على مستوى الظاهر ، و أننا نستطيع أن نجد بقايا هذه الحقيقة في التعاليم التقليدية لأي حضارة من الحضارات أو أي شعب من الشعوب ، لقد قام بذلك دون أن يَظهر في أعماله _ على الرغم من إسلامه _كممثل أو مدافع عن أي دين من الأديان دون الأخر ، بل كان دائماً يتحدث باسم الحقيقة التقليدية بلغاتها المختلفة الإسلامية و اليهودية و المسيحية و بلغة تعاليم التاو المقدسة .
إن حقائق المستوى الثاني هي صورة عن الحقيقة و ليست الحقيقة ذاتها ، إلا إن ذلك لا يعني على الإطلاق إلغاءً للأديان أو تقليلاً مما تمثله من حقيقة ، و هذا ما كان غينون يؤكد عليه في كل مناسبة ، على عكس ما كانت تدعو إليه تيارات الروحانية الكاريكاتورية و المزيفة التي ألغت الأديان لتقر عوضاً عنها مزيجاً عجيباً من الأفكار المأخوذة من ديانات شتى و طقوس وثنية مريبة و تقدمها على أساس أنها الحقيقة التقليدية الأولى . إن الوعي التقليدي الحقيقي لا يكتمل في الإنسان إلا بالتزامه بكافة تعاليم الدين الذي ينتمي إليه ، فكما أنه على المسيحي أن يقر بأن الكنيسة هي المرجعية الأساسية لحل و تقرير كافة شؤون البناء الاجتماعي ، يترتب على المسلم أن ينصاع لكافة أوامر و نواهي الشريعة .
إن قوانين الظاهر هي القوانين التي تنظم العلاقات في إطار الحضارة التقليدية و هي تتوجه إلى جميع أفراد هذه الحضارة ، في حين تبقى الحقيقة التقليدية الأولى مصانة في إطار النخبة التي تستطيع أن تصل إليها . و في نفس الوقت فإن الوصول إليها غير ممكن إلا عبر حقائق و قواعد الظاهر.
إن حقائق المستوى الثاني و إن كانت نماذج تطبيقية عبر التاريخ للحقيقة التقليدية الأولى إلا أنها لا تمتلك ذات الثبات و الديمومة إنما هي قابلة للتغير و الفساد ، بل إنها و هي في أبهى و أنصع صورها حجاب يحجز عن رؤية الحقيقة الأولى إذا ما صارت شكلاً و حرفاً دون روح ، عندها تنقطع روابطها مع حقيقتها و تمتلئ بمضامين مزورة و مزيفة ، و تنضم إلى المستوى الثالث من مستويات الوجود الذي يتبدى تاريخياً عبر الانتقال إلى عالم معادي تماماً للحقيقة التقليدية يرفضها و يحاربها بشتى الوسائل ، في هذه الحالة يصبح الوجود الإنساني وجوداً محاطاً بالزيف و التضليل و الحقائق المعكوسة و القيم المقلوبة و المفاهيم المغلوطة ، عندها يتحقق عالم الكم و حضارة المادة و تشيّد ممالك الوهم و الكذب ، مملكة المسيح الدجال ، و الدجال هو الكذاب الذي يعبر اسمه عن مضمون مملكته .
إن تراتبية الوجود الإنساني تتبدى عبر هذه الثلاثية :
الحقيقة الأولى _ تمثلها الحقيقة التقليدية البدئية
حقائق المستوى الثاني _ تمثله التعاليم الدينية و الأنظمة التقليدية المختلفة
و في المستوى الثالث مستوى نفي الحقيقة _ فتمثله الحضارة الحديثة المعادية و المناقضة بكافة المقاييس للحضارة التقليدية و لكل ما هو مقدس و روحي.
لذلك فإن الفكر التقليدي لا يخفي عداءه الكامل و الشامل و الصريح للحضارة الحديثة ، هذا العداء الذي يتجاوز الانتقادات السطحية التي تعبر عنها بعض تيارات الفكر الحديث، إنه عداء عضوي بنيوي ، لأن التقليد هو الطرف النقيض و المعاكس لكل ما هو حديث . و هو يعبر عن عدائه هذا بالانحياز المطلق إلى صف التعاليم الدينية المختلفة ، لأن هذه التعاليم هي الملجأ الوحيد لأفراد المجتمع الإنساني للخلاص من حضارة الزيف و الكذب و الخداع التي سيكون مآلها و محطتها النهائية هي تتويج سيد مملكة الكذب و الخداع و الحقائق المغلوطة و المفاهيم المقلوبة _ المسيح الدجال _ ملكاً عليها .
إن إقرار التقليدية التكاملية للحقيقة التقليدية حقيقة شمولية أولى لا ينفي ، كما أشرنا ، إقرارها للديانات المختلفة ، و كذلك فإن إقرارها لوحدة هذه الديانات على مستوى الجوهر و على مستوى المصدر و تكاملها في التعبير عن الحقيقة التقليدية الأولى لا يلغي حقيقة أنه على كل إنسان يحمل فكراً تقليدياً أن يلتزم التزاما تاماً بإحدى هذه العقائد الدينية ، و قد أعطى غينون مثالاً لذلك بنفسه من خلال اعتناقه للإسلام . لكن اعتناق أي من الديانات الصحيحة يجب أن لا يقود إلى الجمود العقائدي و الغرق في الجزئيات التي تمثل حقائق ظاهرية نسبية و منقوصة ، إنما يجب أن يدفعنا للتقدم دائماً و عبر النظام العقدي و الشعائري الخاص قدماً نحو الأمام ، نحو الحقائق الباطنية التي تشكل صلة الوصل ما بين المنظومة التقليدية المحددة تاريخياً و الحقيقة التقليدية الأولى .
-------------------

2. الباطن و الظاهر في المنظومة التقليدية
لقد أكد غينون على انقسام التعاليم التقليدية إلى تعاليم ظاهرة و أخرى باطنة، حيث يأخذ هذا الانقسام أشكالاً مختلفة في المنظومات التقليدية المختلفة، و هو بهذا يؤكد حقيقة معروفة في التراث الصوفي العالمي ، و لكنه يشير بشكل متفرق في كتاباته إلى مجموعة من القضايا المتعلقة بهذه المسألة ارتباطاً بالواقع الحديث ، و بشكل عام يمكن أن نلخص موقف غينون من هذه المسألة على الشكل التالي :
1_ إن الحقيقة الباطنية تشكل جزءً عضوياً مكوناً في أي منظومة تقليدية ، و هذه الحقيقة مرتبطة ارتباطا وثيقاً بالكشف الإلهي الذي ينقل موضوعات الاعتقاد من مستوى الإيمان إلى مستوى المعرفة المباشرة ، إنها صلة الوصل فيما بين التعاليم الظاهرة و مبدئها الماورائي ، و إن انقطاع هذه الصلة يقود حتماً إلى تشويه و تزوير تعاليم الظاهر ذاتها و انحطاط المنظومة التقليدية بأكملها .
2_ إن التعاليم الباطنية لمختلف الأديان قريبة من بعضها إلى أبعد الحدود ، و هذه حقيقة لا يغيرها كل الجدل و النزاع التاريخي في ما بين ممثلي الوجه الظاهري للديانات المختلفة ، و غينون يدعو الباحثين عن الحقيقة لعدم الالتفات إلى هذا الجدل العقيم و تركه لعلماء الظاهر .
3_ إن الإقرار بالحقيقة الباطنية لا يعني إهمال و تجاهل التعاليم الظاهرية لأي دين من الأديان لأن هناك ترابطاً و تكاملاً في ما بين الباطن و الظاهر ، و من جهة أخرى فإن وحدة الحقيقة الباطنية في الأديان المختلفة لا تعفي من ضرورة اعتناق دين من الأديان الصحيحة .
4_ يرى غينون أن الحقيقة الباطنية تتعرض في العصر الحديث إلى هجوم من اتجاهين مختلفين ، فهي من جهة أولى تتعرض للتشويه و التزوير من قبل تيارات و جماعات أجملها غينون تحت اسم " الروحانية الجديدة " هذه الجماعات التي تستغل التسمية لنشر و تعميم تعاليم معادية أصلاً للفكر التقليدي و قد توقف غينون بإسهاب أمام الدور الخطير المعد لهذه الجماعات لتلعبه في العصر الحديث . و نستطيع أن نحدد من خلال كتابات غينون الجهات التي تمتلك تعاليم باطنية أصيلة و صحيحة على الشكل التالي : في الإسلام _ التصوف ، وفي اليهودية _ القابالا ، و في الكاثوليكية _ الهرمسية المسيحية و بعض جمعيات الفرسان التي أسست في القرون الوسطى ، و لغينون وجهة نظر خاصة بالمسيحية فهو يرى أن المسيحية أصلاً هي تعاليم باطنية محضة ، و لذلك قامت بتمثل بعض الشرائع و الطقوس الهيلينية عندما تحولت إلى دين رسمي في أوروبا . أما في الصين فإن التعاليم الباطنية مجموعة في عقيدة التاو، و في الهندوسية البرهمانية و اليوغا الروحية .
أما الجهة الأخرى التي تتعرض الحقيقة الباطنية للهجوم من قبلها في العصر الحديث فهي ممثلي المؤسسات التقليدية الظاهرية ، و هذا ينطبق على كل مؤسسات الحقيقة الباطنية التي تم ذكرها . إن العلاقة الطبيعية التي يجب أن تقوم و التي كانت دائماً قائمة فيما بين ممثلي الظاهر و الباطن هي الاعتراف المتبادل و لم يكن من المستهجن أن نرى ممثلي الحقيقة الباطنة يحوزون على التقدير و التبجيل الأكبر . أن غينون يرى في ظاهرة العداء هذه إحدى علامات هيمنة الروح المعادية للتقليد في العصر الحديث .
لقد كان غينون يؤكد دائماً على أن العودة إلى الحقيقة التقليدية و إلى الحضارة التقليدية يتطلب قبل كل شيء بناء النخبة التي تحمل الوعي التقليدي الأصيل ، و أن هذا البناء يتحقق من خلال التجربة الباطنية الصوفية التي تنقل الإنسان من حالة النقص إلى حالة الكمال ، و من المعارف النسبية إلى المعارف الكلية، من مستوى الحقيقة الثانية إلى مستوى الحقيقة الأولى. لقد رسم غينون في مؤلفاته الطريق الذي يجب أن يسلكه الغرب لتكوين النخبة التقليدية في عالم الزيف المعاصر ، إنه طريق الانتقال من الحداثة إلى النماذج التقليدية للوصول إلى الحقيقي و الخالد و البدئي و قد أكد غينون أن ممثلي الشرق على استعداد دائم لمد يد العون لكل الغربيين الراغبين في الوصول إلى الحقيقة.
على هذه النخبة أن لا تكتفي بالعودة إلى القديم و ألا تقنع أو تسعى لتحقيق منظومات تاريخية ماضية ، إنما عليها أن تسير عبر الماضي و عبر الأديان ذاتها للوصول إلى الحقيقة الأولى مصدر الحقائق كلها ، و يتغنى غينون في كتابه " مملكة الكم و علامات الزمن بقول ابن عربي :
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان و دير لرهبـان
و بيت لأوثان و كعبة طائف و ألواح توراة و مصحف قرآن
أودين بدين الحب أنى توجهت ركائبـه فالحب ديـني و إيماني
وإذا كان لهذا السعي مبرراته المعرفية في الزمن الماضي فإنه في الزمن الحديث يكتسب إضافة إلى المبررات النظرية مبررات عملية فنحن في زمن النهايات و في عصر الظلام ( كالي يوغا ) حيث تحتشد قوى النور و الظلام ، الحقيقة و الخداع للمعركة النهائية الفاصلة ، هذا ما تؤكد عليه كل التعاليم التقليدية و كل الديانات ، و هذا ما تشير إليه التطورات التاريخية في عصرنا الحديث ، إذ لم يكد ينتهي القرن العشرين حتى أعلن الغرب من خلال مقالة صمويل هنتينغتون الشهيرة " صراع الحضارات Clash of civilizations " عن عزمه للدخول في المعركة النهائية مع ممثلي الحضارات التقليدية تحت شعار " الغرب ضد كل ما تبقى The west against the rest " . لقد كان غينون قد تلمس أن اقتراب ساعة المواجهة النهائية و الحاسمة يتطلب تشكيل النخبة التقليدية التي تستطيع أن ترفع الشعار الوحيد الممكن للمواجهة و الذي هو " الكل ضد حضارة الغرب The rest against the west " حضارة أوهام المادة و مادية السوق و قانون العرض و الطلب .
إن هذه المعركة قادمة لا محالة و إن النصر فيها سيكون إلى جانب الحقيقة و التقليد ، لكن الإرادة الإلهية شاءت أن لا يتحقق ذلك إلا بعد أن يصل الزيف و التضليل إلى أقصى مدى ممكن له ، عندها تدق ساعة الفصل و يكون الانقلاب الكوني الرهيب .
--------------------

3. النظرية الدورية و فلسفة التاريخ التقليدية
تحتل النظرية الدورية مكانةً أساسية في المنظومة الفكرية لغينون ، إذ إنها تمثل إحدى أهم الخلفيات النظرية لما كتبه عن الميتافيزيقا و التاريخ و الحضارة سواء في كتبه التي عرض فيها الميتافيزيقا الهندوسية أو في مؤلفاته الأخرى ، و لذلك فإن استيعاب غينون و مؤلفاته يتطلب دراية و معرفة جيدة بهذه النظرية .
إن لجوء غينون إلى الميتافيزيقا الهندوسية و مصطلحاتها لا يحمل إلا دلالة واحدة هي ما أشرنا إليه من تكاملية الفكر التقليدي ، ذلك لأن الميتافيزيقا الحقيقية ليست مسيحية أو إسلامية أو صينية أو هندوسية أو غيرها ، إنها واحدة بوحدة مصدرها، و لكنها تعرض و تقدم في أشكال مختلفة في الأنماط التقليدية التاريخية كأوجه مختلفة للحقيقة الواحدة إلا أن بعض الموضوعات تكون معروضة في إحدى الأنماط التقليدية بشكل مفصل أكثر مما هي معروضة في غيرها ، فعل سبيل المثال تمتاز التقاليد الإبراهيمية " اليهودية و المسيحية و الإسلام " بغلبة البعد القياميّ على تعاليمها الميتافيزيقية ذلك أنها بالمعنى التاريخي ديانات نهاية الزمن و نهاية الدورة الكونية و هذا واضح في الإسلام، أن ولادة الإسلام و رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم بحد ذاتها هي من علامات الساعة. في حين أن الهندوسية مثلاً تحتوى على تعاليم أكثر تفصيلية حول الوجود و مراتبه و علائقه ، إن هذا التنوع و الخصوصية لا تعني انتقاصاً من قدرة هذه التقاليد عل تقديم الحقيقة الميتافيزيقية في الصيغة الظاهرة و نقل معتنقيها من خلال التجربة الصوفية الباطنية للتواصل المباشر مع هذه الحقيقة ، بل أن هذه الديانات وخاصة الإسلام منها بحكم خاتميته يمتاز بشمولية ميتافيزيقية واسعة .
يعرف غينون الدورة في كتاب " الصيغ التقليدية و الدورات الكونية "(3) فيقول : " إن مصطلح الدورة في معناه الأكثر عمومية يشير إلى عملية التطور لمستوى كامل من مستويات الصيرورة و الظهور الكوني العام، أما إذا ما أردنا الحديث عن دورة صغرى _ فهي تشير إلى عملية التطور لإحدى الأنساق الصغرى المحددة في الإطار الكلي للظهور العام .
إن مفهوم الدورة لا يقتصر على حركة الإنسان عبر التاريخ فحسب، بل إن الإنسان و الزمان و المكان يندرجان معاً في إطار الحركة و التغير الدوري، مما يجعل مقولتي المكان و الزمان مقولتان
نوعيتان لا كميتان ، إن الدورة بمعناها العام هي شكل خاص لانتقال الوجود من القوة إلى الفعل و من الكمون إلى الظهور عبر التحقق في الواقع تدريجياً و بدون انقطاع ، و الدورة كنموذج انطولوجي ينسحب على شكلين من أشكال الوجود ينطبق عليهما مبدأ الامتداد ، هما عالم الوجود الكثيف (بيهور) و عالم الوجود اللطيف (بيهوواز) و كلا هذين العالمين يمثلان عالم الصيرورة و التحقق ، عالم الكون و الفساد . و عالم الوجود اللطيف (بيهوواز) هو العالم الذي يقابل في اليهودية و المسيحية و الإسلام مستوى الوجود النفسي ، الذي يجب أن نميزه عن (بودهي) عالم الأرواح الذي مقره في السماء ( سوار ) و الذي لا ينسحب علية و على ما يليه من العوالم العليا شكل الوجود الدوري ، لأنه خارج عالم الامتداد ، عالم الكون و الفساد .
إن عامل الامتداد يتبدى في الوجود الكثيف عبر المكان و الزمان ، في حين أن الوجود اللطيف لا تنطبق عليه مقولة المكان أو أي شيء شبيه بها ، و لا مقولة الزمان كذلك ، إلا أنه يمتلك ما هو قريب من مفهوم الزمان و هو ما يمكن أن نسميه " مدة ". فالمدة هي الشكل الوجودي لهذا العالم .
إن المدة كشكل لوجود العالم اللطيف هو المحتوى النوعي للزمان الأرضي و جوهره الخفي، كما يقول غينون، و لهذا يمكن النظر إلى التطورات الدورية للعالم على أنها صورة لظهور و تحقق العالم اللطيف في العالم الكثيف .
إن العالم اللطيف (بيهوواز) كمجال للقوى الحياتية الكامنة يمكن أن ينظر له على أنه الدرب الممتد بين أكثر أشكال و مستويات الظهور انقساماً كمياً ، و أعلى مستويات الظهور بعداً عن الكم و المادة ، أي سماء الروح (سوار) ، لهذا فإنه يمثل عالم الاضطراب و النزوع الدائم ، عالم المد و الجزر ، فهو مؤهل لأن يرتفع و يسمو إلى أعلى مستويات الروح ، أو أن ينحدر إلى أسفل مستويات الظهور المادي .
إن الدورة الكونية الأكبر تسمي في الهندوسية (كالبا) و هذه الكلمة تعني النظام و تمثل على مستوى الظهور، وحدة الظهور الكبرى التي يرمز لها عادة بالشكل الدائري ، الذي يشير غالباً إلى الشمس و بالتالي الدورة الشمسية المغلقة التي تنطبق بدايتها على نهايتها و تحمل (الكالبا) الاسم الرمزي (برادجا باتا) الذي يعني في السنسكريتية " الذي ولد منه كل شيء " .
و عندما يرمز للدورة الكونية بنصف دائرة _ أي الرمز الهلالي القمري _ فإن هذا الرمز يشير إلى معنيين ، الأول هو سمة الدورة كانعكاس على مستوى الظهور للعالم اللطيف، و الثاني إلى مكونات الكالبا، فنصف الدائرة هو حاصل تقسيم الدورة القمرية التي تتألف من 28 يوماً على 2 نحصل بنتيجتها على 14 دورة داخلية في إطار الكالبا ، و يطلق على كل واحدة منها ( مانفانتار ) .
و إذا ما كانت الكالبا بأكملها هي ( برادجا باتا ) فإن كل واحدة من ( المانفانتار ) هي (مانو) و هذه الكلمة تعني حرفياً الإنسان ابن البرادجا باتا أو صورته و هيئته، و المانفانتار هي فترة إدارة و تدبير مانو واحد يتلوه غيره بانتهاء المانفانتار . و هكذا فإن المانفانتار هي عصر مانو واحد يتلوه آخر إلى أن يصل العدد إلى أربعة عشرة مانو لأربعة عشرة مانفانتار ، و هذه الأربعة عشرة تنقسم إلى مجموعتين سباعيتين تضم الأولى منها المانفانتارات الماضية و هذه التي نحن فيها و هي السابعة ، أما الثانية فتضم منفانتنارات المستقبل السبعة .
إن مانو هو الوجود اللطيف للمانفانتار ، إنه روحها و حياتها و معناها ، حيث تكتسب هذه الدورة صفاتها و خصوصيتها من خصوصية مانو الذي يمنح من خلال وجوده اللازماني وقلبه الخالد الحياة و الروحانية ، إن مانو يمثل في الوعي التقليدي الإنسان الأول و الإنسان الأكمل، و يجب التمييز هنا ما بين الإنسان الأول التاريخي و مانو الذي هو الإنسان الأول الماوراء تاريخي . إن مانو هو صورة محضة ينشأ على هيئتها الإنسان التاريخي الأول ليبدأ دورة حياتية بشكل مستقل ظاهرياً إلا أن هذا الاستقلال يبقى محكوماً لضرورات انتقال الواقع من الإمكان إلى الوجود الفعلي بما يرافق هذه العملية من فقدان التشبه بالصورة المحضة، إن حركة الإنسانية التاريخية في داخل المحيط الدائري للوجود الدوري تفترض انقساماً و تنامياً كمياً مترافقاً مع اضمحلال و تراجع نوعي يصل إلى نهاياته القصوى بنهاية الدورة الوجودية، عندها تنتهي إنسانية تاريخية قديمة لتحل محلها إنسانية جديدة هي بداية فترة المانو التالي .
كذلك فإن المانفانتار تخضع لانقسامات داخلية فكل مانفانتار ينقسم إلى أربعة دورات تدعى كل واحدة منها ( يوغا ) و هي في التعاليم اليونانية مطابقة للقرون أو العهود الأربعة التي ذكرها هزيود و تناقلها العديد من بعده بما فيهم أفلاطون، و هي العهد الذهبي و العهد الفضي و العهد البرونزي و العهد الحديدي ، فهناك أولا ( كريتا يوغا ، أو ساتيا يوغا ) و هي تعني قرن الخلق أو قرن الكون ، يقابله في التعاليم اليونانية القرن الذهبي أو العهد الذهبي، يليها مباشرة ( تريتا يوغا ) والذي يعني يوغا الأجزاء الثلاث، يقابله العهد الفضي، و من ثم ( دوابرا يوغا ) أي يوغا ثنائي الأجزاء يقابله العهد البرونزي، و أخيراً ( كالي يوغا ) أي العهد المظلم و يقابله العهد الحديدي الذي تختتم به دورة المانفانتار و ينتهي عهد مانو قديم ليبدأ عصر ذهبي لمانفانتار جديدة، يتخلل هذا الانتقال لحظة توازن ينكشف فيها مبدأ الوجود المركزي للكالبا بأكملها و الذي هو (البرادجا باتا) هذا الانكشاف الذي ينطبع في المانو الجديد.
إن الانتقال من عهد إلى عهد يمثل حركة تراجعية بالمعني النوعي ينتقل فيها الوجود الكوني و التاريخي للإنسان من النوع إلى الكم و من الصورة إلى المادة و من الجوهر إلى المظهر ، باختصار من الأرقى إلى الأدنى و هذا يتناقض كلياً مع النظرة التقدمية التي يقرها الفكر الحديث ، كما يترافق هذا التراجع مع تناقص المدة الزمنية لكل عهد من العهود ، فإذا ما افترضنا أن المدة الكاملة للمانفانتار هي عشرة وحدات زمنية : كانت مدة الكريتا يوغا أربعة وحدات ، و التريتا يوغا ثلاث وحدات ، و الدوابرا يوغا وحدتين ، و الكالي يوغا وحدة زمنية واحدة أى أن التناسب الزمني للمانفانتار يساوي تناسب الأرقام 4 + 3 + 2 + 1 = 10، و رقم عشرة يرمز لاكتمال الدورة والعودة إلى المفردة الواحدة .
إن الدورة كشكل وجودي لا يقتصر كما أشرنا على الوجود الإنساني ، بل هو يمتد ليشمل الوجود الكوني بأكمله ، فالدورة هي الشكل الوجودي لعالم الظهور (عالم الشهادة) الذي هو الوجه الظاهر للمبدأ الأول الذي يسمى في الهندوسية (فايشوا نار) المتمثل في ( البرادجا باتا) الذي هو المحتوى الأعمق للدورة الوجودية، و بالتالي لا بد من وجود علاقة فيما بين الفضاء الكوني و حركته و حركة الوجود الإنساني، إلا أنه يجب التنويه هنا إلى أن هذه العلاقة لا تعني تبعية الوجود الإنساني لحركة الأجسام الفضائية، كما تطرح بعض اتجاهات الأسترالوجيا المبتذلة، و لا تبعية الفضاء للوجود الإنساني، إن حدود العلاقة فيما بين عالم الإنسان " الكون الصغير " و الفضاء الكوني " الكون الكبير " هي أن كلاهما تحقيق للمبدأ الواحد الأول المتحقق تدريجياً في الدورة الكونية. على ضوء هذه الموازاة فإنه يمكننا الحديث عن تزامن ما فيما بين الأحداث على مستويي العالم الكثيف، على أساس هذا التزامن و استناداً إلى معطيات أخرى تقدمها التعاليم التقليدية قام رينية غينون بتحديد المدة الزمنية للمانفانتار الواحدة على أنها تساوي 64800 عام حيث يحتل العصر الذهبي (كريتا يوغا) 25920 ، و العصر الفضي ( تريتا يوغا ) 19440 ، و العصر البرونزي ( دوابر يوغا ) 12960 ، و العصر الحديدي ( كالي يوغا ) 6480 ، تبقى القضية المتعلقة بالتاريخ الدقيق لبداية و نهاية كل عصر من العصور أو لعصرنا الحالي عصر النهاية و عصر الظلام ( كالي يوغا ) طي الكتمان و سراً من الأسرار الكبرى، إلا أن المؤكد و الذي تشير إلية كل التعاليم التقليدية هو أننا في المرحلة الأخيرة من الدورة الكونية، و قد أضاف غينون أننا نعيش الساعات الأخيرة المتبقية من هذه المرحلة ، و لم يعد يفصلنا عن نهاية الزمان ، الذي يشير إليه غينون في الجملة الأخيرة من كتابه " مملكة الكم و علامات الزمن " إلى أنه " لن يكون شيئاً آخر سوى نهاية وهم من الأوهام ".
بقي أن نشير إلى أن الدورة الكونية و إن كانت معروضة بأوضح صورها في الهندوسية، إلا أن ذلك لا يعني أنها بعيدة كل البعد عن التقاليد الأخرى، و قد اعتاد غينون أن يشير في كل مؤلفاته إشارات غاية في الأهمية تؤكد عموم المفاهيم التقليدية على كل النظم التقليدية، و هو يوضح ذلك نسبة للنظام الدوري من خلال النص التالي الوارد في كتاب " الصيغ التقليدية و الدورات الكونية " فيقول : " لا بد هنا من النظر في تطابقات أخرى ، مثلاً التطابق فيما بين "المانفانتارات" السبع و مفهوم "الدويبا" أو " الأقاليم " السبع التي تنقسم إليها الأرض تبعاً للعقيدة الهندوسية. بالرغم من النظر إلى " الدويبا " على اعتبار أنها جزر أو قارات ممتدة في أماكن عدة ( إن كلمة "دويبا "ذاتها تعني في السنسكريتيه جزيرة ) يجب أن لا نفهم هذا الكلام حرفياً و نفسر "الدويبا" على أنها القارات المختلفة على كوكبنا ، لأن " الدويبا " تظهر واحدة تلو الأخرى و بالتتابع لا في وقت واحد، و هذا يعني أنه على امتداد كل دورة كاملة نتعامل مع " الدويبا " ذاتها ، و إذا ما اعتبرنا أن هذه الدورة هي " المانفانتار " ، تكون النتيجة أن " الدويبا " الواحدة تظهر مرتين على مدار " الكالبا " بأكملها، أي مرة في كل مجموعة من مجموعتي " المانفانتار " السباعيتين. و استناداً إلى علاقة هاتين المجموعتين ببعضهما _ و هما مرتبطتين ببعضهما بشكل عكسي ، كما هو الوضع دائماً في هذه الحالات و كما يتضح أيضاً من خلال " السوارغا " و " الباتالا "(4) يمكن أن نصل إلى نتيجة مفادها أن تتابع ظهور " الدويبا " في المجموعة السباعية الثانية " للمانفانتار " يجب أن يكون عكسياً نسبة إلى نظام ظهورهم في المجموعة الأولى . و بشكل عام فإن الحديث هنا هو حول الأوضاع المختلفة للعالم الأرضي بشكل عام لا عن أقاليم جغرافية.
إن " دجامبو – دويبا " تمثل الأرض في حالة التحقق الفعلي و يقال أنها تمتد إلى الجنوب من جبل " ميرو " و هذا الجبل هو نقطة المحور الذي تدور أرضنا حوله، و لكن بما أن جبل " ميرو " يتطابق على المستوى الرمزي مع القطب الشمالي، فإن الأرض بأكملها تمتد إلى الجنوب منه. و لكي يتم شرح هذا الموضوع بشكل كامل يجب علينا أن نستعرض التصورات المتعلقة برمزية اتجاهات المكان السبعة _ لأن تقسيم " الدويبا " في " المانفانتار " يتم استناداً إليها _ و كذلك إظهار العلاقة بين رمزية الزمان و رمزية المكان و التي تبنى عليها عقيدة القانون الدوري، لكن لاستحالة استعراض كل هذه الأفكار في مقالة واحدة _ فذلك يتطلب تأليف كتاب خاص _ نقتصر على إشارات عامة، أما أولئك الذين يمتلكون بعض المعارف في هذا المجال فإنهم قادرون على استكمالها بسهولة .
إن التأويل الذي قدمناه لمصطلح " الدويبا " السبع ، أي الجزر السبع ، يتأكد بتطابقه مع معطيات تقاليد أخرى حيث يتم الحديث عن " الأراضي السبعة " و بشكل خاص يتضح ذلك في التعاليم الباطنية الإسلامية و في الكابالا اليهودية ، ففي الكابالا يتم الحديث عن الأراضي السبعة ظاهراً على أنها الأقسام السبعة لأراضي كنعان المملوكة من قبل " ملوك آدوم السبعة " الذين يطابقون بشكل واضح " المانو " السبعة لمجموعة " المانفانتار " السباعية الأولى ، و الأراضي السبعة متضمنة في ما يسمى " أرض الأحياء " و التي تمثل مجموع الإمكانات الحياتية للعالم بمعناه الأكثر شمولية مقدماً في شكل متزامن و بصورة مبدئية أولية. و يمكننا أن نلاحظ هنا إمكانية النظرة المزدوجة لفهم الحركة الدورية، الأولى تنظر إلى الظهور الدوري على أساس التتابع الصارم (و وجهة النظر هذه تنسجم مع عالم الظهور في حال النظر إليه على اعتبار ذاته و انفصاله عن المبدأ الخالد) والثانية على أساس التزامن و رؤية الدورة بأكملها ( أما وجهة النظر هذه فهي على اعتبار الارتباط مع مبدأ الظهور، مع ما يمكن أن نسميه النموذج الأول للظهور ). و جوهرياً فإن العلاقة بين هاتين النظرتين شبيهة بالعلاقة المتبادلة فيما بين الرمزية الزمنية و الرمزية المكانية ، و هذا ما أشرنا إليه عند حديثنا عن معنى " الدويبا " في التعاليم التقليدية الهندوسية .
أما في الإسلام فإن المعاني الباطنة لما يسمى "بالأراضي السبع" والتي توصف على أنها "طبقات سبعة" إنما هي تعني سبع أنساق أو سبع أنماط للوجود الأرضي، و هي تتواجد بشكل متزامن كما لو أنها متراكبة الواحدة فوق الأخرى، إلا أن نسقاً واحداً هو المدرك بالحواس، أما الباقي فتكون في حالة من الكمون، و يمكن إدراكها في حالات فريدة و في ظروف غاية في الخصوصية، و يذكر كذلك في التعاليم الباطنية الإسلامية أن هذه الطبقات من الأرض تظهر على التوالي في عهود مختلفة واحدة تلو الأخرى في السياق العام لتطور العالم الأرضي. كما أن كل واحدة من هذه الأراضي السبع تدار من قبل قطب ( يورد غينون كلمة قطب العربية بأحرف فرنسية، ثم يترجمها ليظهر معناها الحرفي الذي يشير إلى المفهوم الجغرافي للقطب و الذي هو نقطة المحور ) الذي يطابق بمعناه "مانو" ذلك العصر الذي تظهر فيه أرض محددة . و جميع الأقطاب السبعة يخضعون للقطب الأعلى ، تماماً كما يخضع " مانو " إلى " آدي مانو" و بما أن هذه الأراضي السبعة موجودة في آن واحد، فإنها تقوم بوظائفها في الوقت ذاته ، أي أن وجودها و تأثيرها هو وجود و تأثير متزامن و دائم .
من الواضح تماماً أن مصطلح " القطب " متصل بشكل وثيق مع الرمزية القطبية لجبل " ميرو " الذي ذكرناه سابقاً ( بالمناسبة فإن جبل ميرو له ما يعادله بدقة في التقليد الإسلامي و الذي هو جبل ق ). و نضيف أيضا أن الأقطاب الأرضيين السبعة يجب أن ينظر إليهم كانعكاس للأقطاب السماوية السبعة ، الذين يمثلون السماوات السبع للأراضي السبع، و هذا يعيدنا إلى مقولة التقليد الهندوسي حول " السوارغا " مما يؤكد التطابق التام بين التقليدين بالنسبة لهذا السؤال " .

(ما ورد في هذا البحث لا يعبر بالضرورة عن رأي الملتقى الفكري للإبداع)
--------------------------------------
الهوامش

(1) لقد اعتمدنا في إعداد هذه الدراسة على مجموعة من أعمال غينون، المتوفرة لدينا: " أزمة العالم الحديث " " مملكة الكم و علامات الزمن" "ملك العالم" " مقدمات عامة في فهم العقائد الهندوسية" و مجموعة من الأعمال المنشورة في مجلات مختلفة، لكننا لم نحل القارئ إلى النص و صفحة وروده في الكتاب أو المجلة لأننا اعتمدنا على نسخ باللغة الروسية حيث أن هذه الكتب غير متوفرة باللغة العربية حتى الآن . كما نشير إلى مجموعة هامة من الدراسات حول غينون و التقليدية التكاملية قدمها المفكر التقليدي الروسي " الكسندر دوغين" و من أهمها دراسته الغنية و القيمة التي أسماها " غينون .. نبي العصر الذهبي الجديد" و كتابه الشيق و الغني " دروب المطلق" و هذه المصادر جميعها غير متوفرة باللغة العربية. من المصادر العربية الممكنة كتاب الشيخ عبد الحليم محمود " المدرسة الشاذلية الحديثة و إمامها أبو الحسن الشاذلي" حيث أفرد في هذا الكتاب فصلاً للتعريف بالشيخ عبد الواحد يحيى.
(2) رواه أحمد و الطبراني
(3) و هو كتاب يضم مجموعة من المقالات المختلفة التي تم جمعها و نشرها بعد وفاة غينون، و التعريف مأخوذ عن مقالة بعنوان " بعض الملاحظات حول قانون الدورات الكونية"
(4) في بداية هذه المقالة يشير غينون إلى أن مجموعتي " المنفانتار" السباعيتين مرتبطين بمفهوما السوارغا و الباتالا، و سوار في اللغة السنسكريتية تعني السماء، و في العقيدة الهندوسية السوارغا السبع تمثل السموات السبع التي ترمز إلى المستويات الماورائية التراتبية السبع لعالم الملكوت، إنها الطبقات السبع لعالم "البودهي" عالم الأرواح الذي تقطنه " الديوا" التي تقابل في الإسلام و المسيحية مفهوم الملائكة. أما باتلا فهي تعني في السنسكريتية الجحيم أو العالم السفلي ، و الباتالا السبعة هي طبقات العالم السفلي السبع و هي تمثل الطبقات السبع لأشكال الوجود اللطيف الناري الطباع المسماة " ناغام" و التي تقابل العفاريت في المسيحية و عالم الجان في الإسلام.
 
التعديل الأخير:

. القسم الثاني

4. التقليدية و نهاية الزمان
إذا ما أردنا أن نعرّف غينون و أعماله لقلنا أن أفضل تعريف له هو التالي : إنه إعلان صريح يقوم به أحد أبرز ممثلي الوعي التقليدي في القرن العشرين مؤكداً أن ساعة النهاية قد اقتربت و أنه لم يعد يفصلنا سوى فترة قصيرة عن ظهور الشخصية القيامية المركزية التي تسمى " ساوشبانتا " في الزردشتية و "كالكي " في الهندوسية و " بانتوكراتر " في المسيحية و الذي هو المهدي في الإسلام والذي يكون ظهوره إعلاناً لنهاية الدورة الكونية و راية تلتف حولها كل القوى التقليدية استعداداً للمعركة النهائية بين الضد و ضده ، بين الخير و الشر بين النور و الظلام بين الحق و الباطل بين الحقيقة و الوهم بين المسيح و المسيح الدجال. وهو في نفس الوقت دعوة لبدأ العمل من أجل تأسيس النخبة التقليدية على المستوى الكوني لمواجهة النخبة المضادة للتقليد التي أظهر غينون للملأ وجودها و التي يسميها القرآن الكريم تسمية تجلى مكنونها و حقيقتها حيث يسميهم " أولياء الشيطان " و قد أوضح غينون في صيغة لا تدع مجالاً للشك مدى واقعية و حقيقية مثل هذه التسمية التي ربما كان الكثيرون يفهمونها في إطار مجازي. و لتحقيق هذا الهدف فقد عمد غينون إلى قضيتين اثنتين ، أولاً: إعلان الحقيقة التقليدية بنسبة من العلنية و الوضوح لم يسبق لها مثيل في تاريخ الفكر التقليدي ليكون هذا الإعلان منارة تهتدي بها النخبة التقليدية في عصر الظلام و اختلاط المفاهيم، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد قام غينون و لأول مرة ربما بتقديم نظرية الوجود الدورية _ التي أشرنا إليها مجرد إشارة ولم نعطها حقها _ بطريقة من الوضوح لم يسبق لها مثيل، قي حين كانت هذه التعاليم محاطة بسرية تامة و لا يعرف عنها سوى معلومات سطحية و شكلية.
ثانياً : قام بتوضيح البعد القيامي لأزمة العالم الحديث و بين طبيعة القوى التي تقف خلف تعميق مسارات الموقف الحديث، و قد فعل ذلك أيضاً بوضوح لم يسبق له مثيل.
إن وضوح غينون و صراحته في إظهار حقائق التقليدية وأعداء التقليد لا يشكل خروجاً عن القاعدة التي كانت تحكم حملة الوعي التقليدي و التي كانت تنص على ضرورة إبقاء هذه المعلومات بعيداً عن متناول الجهلة و الفضوليين، إنما هي تعبير عن حقيقة ميتافيزيقية قيامية أساسية مفادها أن تطورات الموقف القيامي سوف تؤدي إلى اتضاح الحقيقة و نقيضها إلى درجة الفرز الكامل و التام بين معسكرين أحدهما هو معسكر الحقيقة متمثلاً شخص المسيح عليه السلام في عودته و تنزله،و الآخر هو معسكر الحقيقة المقلوبة و المزيفة متمثلاً في شخص المسيح الدجال الذي يمثل الوجه المعاكس و المزيف للحقائق الكونية الكبرى. و قد أوضحنا مسارات تطور الموقف القيامي من وجهة نظر التقليد و كما عبر عنها غينون من خلال النظرية الدورية، و سوف نقوم بنقل ما أوضحه غينون من معلومات قيمة لتطور الموقف القيامي على الجبهة المضادة للتقليد .
يوضح غينون في كتبه و خاصة منها كتابه "مملكة الكم و علامات الزمن" العوامل التي تساعد في ظروف العصر الحديث، على دفع الإنسانية نحو النهاية المحتومة و يحددها بعاملين هما التصلب أولاً و الانحلال ثانياً، من ثم يقوم بشرح مفصل لكل واحد من هذه العوامل .
أولاً _ التصلب: و هو انتشار المادية وهيمنتها على كافة مظاهر الحياة الفكرية و الاجتماعية والاقتصادية و السياسية و الأخلاقية، بل امتدادها لتصبح مهيمنة في المجال الكوني بأكمله عبر ما يسميه غينون ظاهرة " التحجر " أو " التصلب الكوني " و الذي عبر عنه بالانتقال الكلي للوجود من النوع إلى الكم، و الذي تعبر عنه التعاليم الهندوسية من خلال انتقال الوجود الكوني بأكمله عبر مراحل " المنفانتار " الأربعة من هيمنة عنصر إلى آخر، لأن كل مرحلة من مراحل "المانفانتار " تتسم بهيمنة عنصر (أو أكثر تبعاً للمدة الزمنية لكل مرحلة) من العناصر و التي هي الأثير و الهواء والنار و الماء و التراب ، حيث تكون هيمنة عنصر التراب على المرحلة الأخيرة من الدورة " الكالي يوغاً " هيمنة كاملة تؤدي إلى ما أسماه غينون ظاهرة " التصلب الكوني " . و يشير غينون إلى أن مادية العالم الحديث لم تكن ممكنة أصلاً لولا هذا التصلب الكوني، و لكان الواقع المباشر للحياة قادراً على تقديم حججاً دامغة في كل لحظة على استحالة الفهم المادي للوجود. يقول غينون موضحاً هذه الفكرة في كتابه مملكة الكم و علامات الزمن :(5) " كما ذكرنا في مناسبات عديدة فإن النظام الإنساني و النظام السماوي الكوني، غير منفصلين في الواقع كما يتصورون في أيامنا هذه بكل سهولة، إنما هم على عكس ذلك مترابطين بطريقة تجعل كل منهم يستجيب بشكل دائم للأخر …… علاقة الترابط هذه تظهر من خلال تزامن الأزمات الإنسانية في التاريخ و الكوارث الطبيعية ، هذا التزامن الذي يرتبط بفترات فلكية محددة .
و بما أن الأمور على هذه الحال ، فمن الطبيعي أن يكون مسار التطور الدوري للصيرورة الكونية بشكل عام و للوعي الإنساني المحتوى ضمناً في هذه الصيرورة ، يتبعان خطاً انحدارياً واحداً وصفناه بأنه ابتعاد متدرج عن المبدأ ، أي عن الروحانية البدئية الأولى التي تمثل القطب الجوهري للصيرورة والظهور. إن هذه الحركة يمكن و صفها مستفيدين من مفاهيم اللغة اليومية التي تصف بدقة ما نتحدث عنة بأنه " التشيئ المادي " المتنامي للبيئة الكونية بأكملها. و فقط عندما يصل هذا التشيئ المادي إلى أعلى مستوىً من التحقق، يمكن أن تظهر في عالم الإنسان، تبعاً لذلك، المقولة النظرية المادية …… وبدون هذه المادية المتحققة واقعاً لم يكن للمادية النظرية أي مصداق ذلك لأن الواقع المحيط كان سيقدم لنا في كل لحظة أدلة دامغة تدحض هذه المقولة .
إن فكرة المادية كما يفهمها الحداثيون ما كان لها أن تولد إلا في هذه الظروف، و مع ذلك فإن ما تقدمه هذه النظرة المادية من تصور مشوش و غير واضح في كثير من الأحيان لما يمكن أن يكون عالماً مادياً، ما هو إلا ذلك الحد الذي لا يمكن للحركة الانحدارية أن تصل إليه أبداً كتحقق فعلي و واقعي …… بكلمة أخرى نقول بأن المادية يمكن أن توجد كنزعة أو كاتجاه ، لكن المادية كتحقق فعلي و نهائي لهذه النزعة هي حالة مستحيلة و غير قابلة للتحقق أصلاً(6) …… و على هذا الأساس يمكننا أن نشير من الآن فصاعداً إلى عملية الظهور و الصيرورة على اعتبار أنها عملية " تصلب " ذلك لأن الأجسام الصلبة بحكم كثافتها و عدم قابليتها للنفاذ تعطي أكثر من أي شيء آخر وهم المادية …… و نضيف بأن هذا التصلب هو السبب الحقيقي لنجاح العلوم الدنيوية الحديثة ، على مستوى التطبيق العملي ، لا على المستوى النظري الذي لا يصبح بهذا النجاح أقل خطأً مما هو عليه ، ففي ما مضى من العصور عندما لم يكن التصلب الكوني قد و صل إلى حدوده الحالية، فإنه و خلافاً لأن الإنسان لم يكن لتخطر في مخيلته الصناعة الحديثة كما تمارس اليوم ، فإن هذه الصناعة ذاتها كانت مستحيلة و غير قابلة للتطبيق أصلاً، لا هي و لا كل ما اعتدنا أن نسميه "نمط الحياة العادية " التي تحتل فيها هذه الصناعة مكانة مرموقة. و بالمناسبة نشير إلى أن ما ذكرناه يكفي لتفنيد كل تصورات الحالمين " ذوي الرؤية الثاقبة " الذين يتخيلون الماضي من خلال النموذج الحاضر فيقومون بإعطاء بعض حضارات عهود ما قبل التاريخ الموغلة في القدم سمات و خواص مشابهة لواقع الحضارة الصناعية الآلية، و هذه إحدى الأغاليط التي تنتمي إلى ما تعبر عنه المقولة المشهورة من أن " التاريخ يعيد نفسه " التي تنطوي على جهل تام لما أسميناه السمة النوعية للزمان .
و لكي نصل إلى واقع التصلب الذي وصفناه سابقاً ، كان لا بد من تحقق ما أسميناه " بالتشيئ المادي " أو " التصلب " في الإنسان نفسه ، كما هو متحقق في البيئة الكونية ، هذا التحقق الذي يؤدي إلى تغيير التركيب " الفيزيولوجي _ النفسي " للإنسان ، و يقود إلى فقدان الإنسان خبرة استخدام المقدرات التي تتيح له بشكل عادي أن يرتقي و يتجاوز حدود العالم الحسي …… بالرغم من كل ذلك ، و مهما تكرست حالة التصلب الكوني لن تصل أبداً إلى التحقق الكامل فهناك حدود لا يمكن لها أن تتجاوزها مطلقاً ، لأن تحقيقها الكامل و النهائي لا يتوافق مع حقائق الوجود حتى و هو في أدنى مستوياته" .
ثانياً _ الانحلال : إن الانحلال و إن كان بمعناه و مضمونه هو عكس ما أسميناه بالتصلب ، إلا أنه يرافقه بالضرورة من ثم ليتجاوزه و يصبح مهيمناً ، ذلك لأن النهاية تفترض نوعاً من الانحلال ، و يرى غينون أن هيمنة هذا الانحلال قد بدأت مع تراجع و تبخر مفهوم المادة كما أقرته الفيزياء الحديثة و اعتمدته منها الفلسفة الحديثة، عن هذا الانحلال يقول غينون في " مملكة الكم و علامات الزمن " " لقد لعبت المادية دورها ، و قد كان دوراً هاماً بدون شك ، لكن سمة النفي التي تميزت بها المادية لم تعد كافية الآن ، فقد قامت بدورها في إغلاق منافذ الإنسان نحو العالم العلوي ، لكنها لم تفتح المنافذ لدخول قوى العالم السفلي هذه القوى التي تستطيع أن تصل بالانحلال إلى أقصى مداه " .
هذه القوى التي يتحدث غينون عن تأثيرها قائلاً : " إننا نعني تأثير قوىً تنتمي إلى نسق العالم اللطيف ، هذه التأثيرات التي بدأت تدخل فعلياً في الحياة الحديثة منذ فترة بعيدة ، على الرغم من أن هذا الدخول سيتم بداية بشكل غير ملحوظ، و قد ترافق مع البدايات الأولى للتكون النظري للمادية كما رأينا ذلك في مثال المغناطيسية(7) و الروحانية ، إذا ما استخدمنا التسميات التي دخلت فيها هذه الظواهر مجال " الخرافات العلمية " لذلك العصر الذي ولدوا فيه .
و كما قلنا سابقاً ، إن تراجع المادية يجب أن لا يدفعنا للابتهاج و لتهنئة أنفسنا ذلك أن الانحدار الدوري لم ينته بعد و أن " الثقوب " التي ذكرناها سابقاً و التي سنعود لتوضيحها لاحقاً يمكن لها أن تتكون فقط من الجهة السفلية، بمعنى آخر ، إن ما يمكن أن ينفذ من خلال هذه الثقوب إلى العالم المحسوس لن يكون شيئاً آخر سوى " الطاقات النفسية الكونية الدنيا "(8) الأكثر تهديميةً و ضرراً ".
من أبرز سمات مرحلة الانحلال كما يشير غينون ، هي بروز تيارات الروحانية المزيفة و التقليدية المزورة أو المعكوسة التي يسميها غينون بالتقليدية المضادة، لذلك فقد اهتم غينون اهتماماً شديداً بهذه الظاهرة، و هو يشير إشارات عابرة إليها في كتابه " أزمة العالم الحديث " لكنه يستعرضها بالتفصيل في كتابين هما " التيوصوفيا تاريخ إحدى الديانات المزورة " و " أوهام الروحانيين " .
و تيار الروحانية الجديدة هو تيار يمتد من التيوصوفيا المتمثل ب " بالافيتسكايا و آنا بيزنت و رودلف شتاينر " مروراً بالأشكال المختلفة للتعاليم الشرقية المزورة التي تنتشر في الغرب كتعاليم كرشنا و التعاليم البوذية المزورتين ، و مروراً أيضاً بالجمعيات الشعائرية المختلفة في الغرب وجمعيات التعاليم السحرية و صولاً إلى حركة " العهد الجديد الأمريكية " المعروفة باسم " النيو إيدج " و لعل أقرب مثال لهذه الجماعات التي انطلقت من الشرق الإسلامي هو " البهائية " و "القاديانية" .
لقد جاء انتشار و توسع نشاط هذه الاتجاهات _ خاصة في الغرب _ بعد وفاة غينون تأكيداً لما أشار إليه من أن هذه الجماعات ستلعب دوراً أساسياً في ما أسماه مرحلة الانحلال و الخلط التي تأتي بعد مرحلة التصلب و المادية و التي تتبدى من خلال الانجذاب العام والاندماج في روحانية مزورة تترافق مع تسلل مخلوقات ما دون إنسانية إلى عالم الإنسان تسمى في الهندوسية " كوكي ماكوكي " وفي اليهودية و المسيحية " غوغي ماغوغي " وفي الإسلام " يأجوج و مأجوج " و ذلك لكي تقوم نهائياً بتخريب و تشويه النموذج النفسي الإنساني العام و تحويل الإنسانية إلى حشد مسلوب الإرادة ومسّير كقطيع غنم نحو الهاوية، هذه الخطوة التي يجب أن تسبق ظهور المسيح الدجال و تهيؤ له .
إن تيارات الروحانية الجديدة بكافة أشكالها هي تعاليم مضادة للتقليد بل هي تقليدية مقلوبة وهي تقوم بدور أساسي في تحضير القوى المعادية للتقليد و المعادية للإنسان لانتصارها على الأرض وتقف اليوم كما أشار غينون قبل المادية على رأس معسكر القوى المعادي للتقليدية، و لذلك فإن غينون لم يدع مجالاً للشك أو التردد في أن عدو الإنسانية الأكبر هو الذي يقف وراء هذه التيارات وأنها تيارات شيطانية بكل ما تحمله الكلمة من معاني مباشرة وواضحة و صريحة سواء كان ذلك بشكل مدرك أو غير مدرك .

5. التقليدية .. و التقليدية المضادة
إن مرحلة الانحلال التي وصل إليها العالم الحديث هي الهم الأساسي الذي تدور حوله معظم أعمال غينون ، بل إن من يطلع على أعماله يشعر و كأنه كان يرى رسالته في الحياة هي تنبيه الغرب إلى واقع الانحلال المتمثل في الحضارة الحديثة ، و قد عالج غينون هذا الموضوع من وجوهه المختلفة ، عالجه تاريخياً من خلال توضيح مكان العالم الحديث في الدورة الكونية ، التي تسير في خط انحداري من المبدأ الأول وصولاً إلى أبعد نقطة ممكنة عن هذا المبدأ . كما عالجه فكرياً من خلال توضيح المنطلقات الفكرية للحداثة بدأً من عصر النهضة ، لكن الجانب الذي انفرد به غينون و تميز هو تلك المعالجة التي يمكن أن نسميها " ميتا تاريخية " ، و نعني بذلك تلك القوى التي تقف وراء الأحداث التاريخية ، و قد قدم غينون على هذا الصعيد معلومات غاية في الأهمية، و غاية في الغرابة بالنسبة لمن غرق حتى أذنيه في المفاهيم الحديثة للتاريخ والمجتمع و السياسة، و نسي تماماً أن الحياة الإنسانية هي امتداد بين قطبين أساسيين هما القداسة و الرجس، النور و الظلمة، الحقيقة و الوهم، و النظام والفوضى .
إن التاريخ الإنساني بأكمله إذا ما نظرنا إليه نظرة عامة بعيدة عن التفاصيل و بعيدة عن الجدل الكلامي العقيم حول التسيير و التسخير ، فما هو إلا تعبير عن إرادة إلهية محكمة و مسبقة تمثل ما يمكن أن نسميه، إذا ما لجئنا إلى تعابير اللغة العادية _ كما يفعل غينون عادة _ مخطط الوجود العام ، هذا المخطط الذي تلعب فيه الإنسانية دورها المحدد ( و المتميز حقاً ) جنباً إلى جنب مع أدوار أخرى تقوم بها مخلوقات إما فوق إنسانية ( ملائكية ) أو دون إنسانية ( شيطانية ). و إذا ما كان الوجود الكوني هو انتقال عبر الدورة بأكملها من النوع إلى الكم و من الجوهر إلى الشكل أو المظهر، فإن التاريخ الإنساني بشكله العام هو انتقال عبر الدورة الوجودية من الحالة الأقرب إلى الملائكية للإنسان التاريخي الأول ( آدم الأول ) إلى حالة السقوط و التدني إلى مستوى الوجود المادون إنساني ( حالة السقوط الشيطاني )
كيف يتحقق تأثير كل من قطبي الوجود الإنساني في التاريخ الآني و الفعلي للإنسانية ؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من توضيح مفهوم مركزي في منظومة غينون الفكرية و هو ما يسميه باللاتينية " Initiatio " و الذي سنقوم بترجمته إلى العربية باسم " الطقوس التنويرية"(9).
التنويرية _ هي مجموع الإجراءات السرية المقدسة التي تعطي للشخص الإنساني إمكانية الخروج الكامل من الحدود الزمنية و المكانية التي تحدد الوجود التاريخي للبشرية. إن هذه الإمكانية تصبح إمكانية فعلية بشرط استكمال الارتقاء و التحقق الروحي لهذا الشخص الإنساني مما يؤدي إلى تفعيل كل القدرات و الطاقات الكامنة ، المتضمنة في الطقس التنويري . و ينقسم الطقس التنويري إلى قسمين : طقوس صغرى و طقوس كبرى ، حيث تكون وظيفة المرحلة الأولى هي إعادة الشخص الإنساني إلى الحالة البدئية " الآدمية " أو " الفردوسية " التي فقدها عبر التاريخ، إن غاية هذه المرحلة هي تحقيق الكمال الإنساني عبر تفعيل كل الإمكانات الإنسانية الأرضية الكامنة بشكل كامل .
أما المرحلة الثانية و الأرقى فهي تقود الإنسان من " الفردوس الأرضي " إلى " الفردوس السماوي " ، إنها تنقله إلى عوالم ملائكية غيبية ، إلى مستويات ما وراء أرضية من مستويات الوجود الكوني .
إن الطقوس التنويرية لها مرادفاتها في كل النظم التقليدية الحقيقية ، و هي على اختلاف تسمياتها تمثل الجوهر السري و المعنى الأعمق لهذه النظم ، و لكنها في نفس الوقت حالة خاصة و لا يصل إليها إلا المختارين ، لذلك فهي امتياز خاص للبنى الباطنية في النظم التقليدية لا الظاهرية منها .
إن مرحلتي الطقوس التنويرية الصغرى و الكبرى يمكن ربطهم مع عالم النفس و عالم الروح ، إذ أن الطقوس الصغرى تحقق للنفس الإنسانية كمالها وصولاً لتحقيق النموذج الإنساني الأول ، في حين تنقل الطقوس الكبرى الإنسان إلى عوالم روحانية خالصة بعيدة عن الوجود الإنساني بأكمله ، إلى عوالم الغيب الإلهي .
مقابل مفهوم التنويرية يقدم غينون مفهوماً معاكساً هو التنويرية المضادة Contor _ Initiatio ، هذا المفهوم الذي يقدمه غينون ، ربما لأول مرة بهذا الشكل من الوضوح و الصراحة .
إن التنويرية المضادة هي مجموعة من الإجراءات الطقوسية التي تحقق للإنسان نقلة على ذات المستوى من الجذرية التي تحققه التنويرية، لكن هذه النقلة ذات اتجاه معاكس تماماً فهي تضع نصب أعينها غاية إخراج الإنسان من حدود المكان و الزمان و التاريخ، لا لإعادته إلى نقطة " الفردوس الأرضي " إنما لزجه في " الجحيم الأرضي " فإذا ما كانت التنويرية تنقل الإنسان إلى بداية التاريخ ، فإن التنويرية المضادة تنقله إلى نهاية التاريخ . و إذا ما كانت التنويرية توجه و تقود الإنسان نحو الإله ، فإن التنويرية المضادة توجهه و تقوده نحو الشيطان .
أما المرحلة الثانية من التنويرية المضادة فهي تحقق انتقال من يخضع لها من مستوى الجحيم الأرضي " نهاية التاريخ " إلى جحيم العوالم السفلى ، أي أنها تنقله من نطاق النموذج الإنساني إلى عالم الكائنات المادون إنسانية .
تجدر الإشارة إلى أن هناك تشابهاً ظاهرياً فيما بين التنويرية و التنويرية المضادة ، ذلك أن المرور عبر طقوس التنويرية المضادة يحرر صاحبه من الظرفية التاريخية و الجغرافية ، تماماً كما تحقق التنويرية هذه الحرية ، و إن المقدرات العامة التي تمنحها التنويرية المضادة شبيهة ظاهرياً بتلك المقدرات التي تمنحها التنويرية الحقيقية ، فكلا الطرفين قادر على صنع خوارق العادات . إن الفرق الجوهري بينهما يكمن في أن التنويرية تنقل الإنسان من واقع الإنسانية التاريخية إلى الجهة العليا نحو عوالم فوق إنسانية ليكتسب صفة من أسماهم القرآن الكريم " أولياء الله " ، أما التنويرية المضادة فهي تنقل الإنسان من واقع الإنسانية التاريخية إلى الجهة السفلى نحو عوالم ما دون إنسانية ليكتسب صفة " أولياء الشيطان " .
إذا ما كانت التنويرية هي المحتوى الأعمق للتعاليم التقليدية، و التي هي بدورها صورة الحقيقة التقليدية الخالدة في الظرف الحضاري المحدد ، فمن أين تنشأ التنويرية المضادة وكيف؟
يجيب غينون على هذا السؤال بشكل تفصيلي في كتاب " مملكة الكم و علامات الزمن " حيث يوضح الظروف العامة لتاريخ التنويرية المضادة التي تقف في العصر الحديث وراء كافة أشكال العداء للفكر التقليدي. فعلى مدار التاريخ الإنساني كانت تتم عمليات تغير للصيغ و الأشكال التقليدية، فالنظم التقليدية كان يتم استبدالها بنظم أخرى جديدة تحتوي في مضمونها ذات الحقيقة الواحدة مقدمة بطريقة تتناسب و التغيرات التي تطرأ على الوجود الكوني و الإنساني ، و بما أن النظم التقليدية الجديدة هي نظم حقيقية و أصلية و تعبر عن الحقيقة التقليدية الأولى فإن الحقائق الجوهرية للمنظومة السابقة تكون متضمنة في التقليد الجديد إنما في إطار و صورة جديدة. لكن في بعض الحالات فإن بقايا الأشكال الخارجية للمنظومات التقليدية القديمة و التي تستمر في الحياة دون أن تندمج في التقليد الجديد و دون أن يكون لها أي ارتباط مع مبدئها الأول ، تصبح مجالاً حيوياً مناسباً لولادة التنويرية المضادة . كما أن الاضطرابات الداخلية في إطار المنظومة التقليدية تؤدي إلى انقلابات و تشوهات في البنى التقليدية و تقود إلى ظهور بقايا تقليدية مفرغة من محتواها تصبح كذلك مجالاً للتقليدية والتنويرية المضادتين. و لعل أبز مثال يقدمه غينون لهذه الاضطرابات هي ما يسميه ثورة " الكشاتري " ضد "البراهمانيين"(10) أي ثورة السلطة المدنية ضد السلطة الروحية .
ضمن هذه الرؤيا يتحدث غينون عن دمار ما يسمى بحضارة الأطلنطد التي كانت حضارة تقليدية مزدهرة في ما يسميه علم التاريخ الحديث _ فترة ما قبل التاريخ _ و التي تعود إلى 10 آلاف عام فبل ميلاد المسيح ،فقد دمرت هذه الحضارة و اندثرت اندثاراً تامً نتيجة لانحلالها و سقوطها ، إلا أن جزءاً كبيراً من التراث الروحي لهذه الحضارة انتقل إلى الحضارات المصرية والكلدانية ، كذلك فقد انتقلت من هذه الحضارة البائدة بعض بقايا التقليدية المضادة . و ضمن هذه الرؤيا أيضاً يتحدث عن الحضارة المصرية التي كانت في عهودها الأولى حضارة تقليدية مزدهرة ومن ثم انحطت نتيجة لعدم التوازن الداخلي ، فقد تطورت في هذه الحضارة العلوم و المعارف تطوراً كبيراً إنما كان هذا التطور على حساب ضياع و هدر الحقائق الميتافيزيقية البحتة مما قاد في النهاية إلى اندثار هذه الحضارة ، و قد عادت الكثير من حقائق و معارف هذه الحضارة " العلوم الهرمسية بشكل خاص " للظهور مرة أخرى في التعاليم الباطنية اليهودية و المسيحية و الإسلامية . أما المستويات الدنيا من هذه الحضارة فقد تحولت إلى بقايا حاملة للتقليدية المضادة . و هذا ما حصل أيضاً في التقاليد اليونانية مع نهاية الألفية الأولي قبل الميلاد نتيجة لضياع الحقائق الميتافيزيقية البحتة ، و في هذه الفترة بالذات يرى غينون بداية الانحرافات التي قادت إلى الحضارة الدنيوية الحديثة .
إن بقايا التقاليد البائدة و التي تشكل بؤراً للتقليدية المعادية، تتحول مع الزمن إلى جمعيات و منظمات سرية شيطانية المضمون و الغايات و تصبح مراكز لإعداد النخبة المضادة للتقليد من خلال الطقوس التنويرية المضادة.
إن فكرة المؤامرة في فهم التاريخ بدأت تأخذ حيزاً كبيراً من اهتمام بعض الباحثين و رجال الدين و غيرهم خاصة بعد انتصار الثورة البرجوازية في فرنسا و إلغاء الملكية، لكن هذه النظرية كانت في كثير من الأحيان تأخذ أشكالاً خيالية و ساذجة، و على الرغم من أن غينون لم يكن باحثاً في التاريخ و لا صاحب نظرية محددة في هذا المجال لأن اهتمامه الأساسي كان منصباً على توضيح الحقائق التقليدية الميتافيزيقية الأساسية، إلا أن ذلك لا يمنع من أن طرحة لمفهوم التنويرية المضادة و دورها في الانحطاط الحديث ، قد أزال الكثير من الأوهام المتعلقة بمفهوم المؤامرة، و أعطاه بعداً ميتافيزيقياً .
على الرغم من اهتمام غينون بالخلفيات و المبادئ الميتافيزيقية الأساسية التي تمكن المهتمين فيما بعد من استنتاج الحقائق التفصيلية، إلا أنه يقدم معلومات تفصيلية في غاية الأهمية حول الأطراف التي تلعب دوراً تنويرياً مضادا في العصر الحديث. فقد تحدث عن دور اليهود و الفرق اليهودية، مؤكداً قبل كل شيء على خطأ الآراء السائدة في أوساط المدافعين عن المسيحية في الغرب، التي تنسب الدين اليهودي بشكل عام إلى التقليدية المضادة لأن اليهودية الأصلية هي تعاليم تقليدية أصيلة، و لكنه يشير إلى الدور السلبي الخطير الذي تلعبه التعاليم اليهودية المشوهة و يلعبه اليهود في العالم الحديث، كما يعيد التأكيد على أن المسيح الدجال سيكون يهودي الأصل .
إن الدور الذي يلعبه اليهود يبدوا واضحاً من خلال ذلك النشاط الغير عادي لليهود في الحياة الفكرية و السياسية و الاقتصادية للعالم الحديث، و يذكر غينون مجموعة من الشخصيات اليهودية المعروفة في عالم الفكر مثل فرويد و برغسون و اينشتين ، فقد خصص في كتابه " مملكة الكم وعلامات الزمن " فصلين أحدهما لبرغسون و نظريته الحدسية المزيفة ، و الثاني لفرويد الذي يصرح غينون علانية عن حقيقة المضمون التنويري المضاد للتحليل النفسي الفرويدي ، و يشير إلى أن فرويد لم يخترع تعاليمه لوحدة، بل إنه استقى هذه التعاليم من جهات سرية تقليدية مضادة(11).
كذلك يشير غينون في مقالاته المتعددة حول الماسونية إلى حقيقة هذه المنظمة التي كانت فيما مضى منظمة تنويرية تقليدية، تحولت مع الزمن و نتيجة لاختراقها من قبل عناصر تنويرية مضادة إلى منظمة معادية للتقليد، و مع ذلك فإنه من غير الصحيح مطابقة اليهودية أو الماسونية مع ما نعنيه بمراكز التنويرية المضادة على الرغم من أنهم يلعبون دوراً مهماً في العداء للتقليدية .
و يذكر غينون أسماء العديد من المنظمات السرية التي تقوم بأدوار تنويرية مضادة ، منها "جمعية الأقصر للأخوة الهرمسية _ Hermetic Brotherhood of Luxor " و كذلك "جمعية الوردة والصليب الإنكليزيةSocietas Rosicruciana in Anglia "(12) وغيرها من المنظمات و الجمعيات السرية التي تلعب دور الوسيط بين العمليات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية الظاهرة و بين مجموعة من الأفراد يحتلون مواقع عليا في التراتبية الهرمية المعادية للتقليد، هؤلاء الأفراد هم من يحددهم غينون " كأولياء الشيطان " الذين يقومون بشكل واع و مدرك على خدمة ما أسماه " أبراج الشيطان السبعة " التي تمثل المرجعية العليا لكل التراتبية المضادة للتقليد(13)، و القائمة على تحقيق التنويرية المضادة في العالم . حول هذه الأبراج السبعة يقول غينون في إحدى رسائله ، إن هذه الأبراج " متوضعة جغرافياً على شكل قوس يحيط بأوروبا من بعد ، أولى هذه الأبراج تقع في منطقة نيجيريا ، هذه المنطقة التي كان يقال عنها في مصر القديمة بأنها موطن أشد السحرة بأساً و أكثرهم شراً ، و الثاني في السودان، أما الثالث فهو في بلاد الشام و الرابع في بلاد الرافدين ،و الخامس في آسيا الوسطى، أما الاثنين المتبقيين فيقعون شمالاً في سيبريا و منطقة الأورال، لكني لم استطع حتى الآن أن أحدد موقعهم الجغرافي بشكل دقيق".
هذه هي مراحل انحلال العالم الحديث بمستوياتها المختلفة كما أوضحها غينون في كتاباته ، فبعد أن اقتربت المادية من إتمام دورها في إغلاق "البيضة الكونية" من الأعلى مغلقة الباب أمام إمكانيات نفاذ التأثيرات السماوية الملائكية إلى العالم، تأتي مرحلة الروحانية الجديدة كتقليدية مزورة و مزيفة لتلعب دورها في إعادة فتح "البيضة الكونية" إنما هذه المرة من الأسفل لنفاذ مخلوقات ما دون إنسانية، شيطانية الجوهر، و لمرور فبائل يأجوج و مأجوج . في هذه المرحلة يكون التناقض قد وصل إلى حده الأعلى، و تكون حالة الفرز قد أصبحت واضحة للعيان، و تكون الشروط قد اكتملت لتتويج المسيح الدجال ملكاً على مملكة الكذب و الخداع. إن غينون يصرح بشكل واضح أن وراء العالم الحديث تقف تنظيمات و جماعات تنويرية مضادة، على رأسها أشخاص يمكن بصعوبة أن نسميهم مخلوقات بشرية، هم خدمة و أدوات المخطط الشيطاني "أولياء الشيطان" ، و على رأسهم عدو الإنسانية الأول و الأكبر ، منذ اللحظة التي قال فيها الله عز و جل (إني جاعل في الأرض خليفة).

6. رينيه غينون و العالم العربي
لقد كتب غينون معظم أعماله باللغة الفرنسية، و هو لم يخل بهذه القاعدة أثناء إقامته في مصر حيث كتب مجموعة من أهم أعماله، و قد كان يقوم بنشر أعماله في أوروبا حصراً ، ذلك أنه كان يرى مهمته و رسالته الأساسية هي تنبيه الغرب إلى حقائق كان قد نسيها نتيجة لابتعاده عن الفكر التقليدي و عن تقليده الخاص المتمثل بالمسيحية.
ولكن هل لنا أن نقول أن رينية غينون هو شخصية لها أهميتها الفكرية في الغرب فقط ؟
ليس هناك من شك في أهمية غينون بالنسبة إلى الغرب ، و لعل الفرنسي جان روبين كان محقاً في كتابة الذي أسماه " غينون _ فرصة الغرب الأخيرة " ، وكذلك كان غينون محقاً حين اعتبر أن خط العداء المطلق للتقليد يأتي من الغرب و أن الشرق لا زال محافظاً على الوعي التقليدي و الحقيقة التقليدية على الرغم من تراجع الفكر التقليدي و انحسار تأثيره في الشرق نفسه. و لكن ذلك لا يلغي أهمية غينون بالنسبة إلى الشرق بشكل عام و بالنسبة إلى الشرق الإسلامي بشكل خاص و ذلك للأسباب التالية :
أولاً _ إن غينون هو ممثل الشرق و بتحديد أكبر هو ممثل الإسلام و التصوف الإسلامي الأكثر شهرة و تأثيراً في الغرب و قد كان له دور كبير في إعطاء صورة جديدة و واقعية للتصوف الإسلامي مغايرة تماماً لتلك التي رسمها المستشرقون ، لقد لفت غينون أنظار المثقفين و الباحثين عن الحقيقة في الغرب إلى أن الإسلام هو الحقيقة التقليدية الخالدة في آخر تجلياتها، و أنه التقليد الذي حافظ على وحدة الحقيقة في الظاهر و الباطن و أن خاتمية هذا الدين تعني شموليته و اتساعه للحقيقة التقليدية الممتدة في الدورة الوجودية بأكملها . و على الرغم من أن غينون لم يكن داعية بالمعنى المعتاد، إلا أن اعتناقه للإسلام هو و العديد من تلامذته، نذكر منهم ميشيل والزان و فريتوف شيون و تيتوس بوكهارت و كلاوديو موتي و غيرهم كان له أثرة الكبير في فتح ثغرة كبيرة في جدار الأكاذيب الإعلامية التي نسجها الغرب عن الإسلام ، ثغرة نفذ منها و لا زال ينفذ الكثيرون في الغرب من حضارة الوهم و الخداع إلى عالم الحقيقة التقليدية الخالدة. و إذا ما كانت النخبة المثقفة في الغرب قد عرفت من هو الشيخ الصوفي الكبير عبد الواحد يحيى و أعطه حقه من العناية و التقدير ، فقد آن الأوان لكي يتعرف الشرق الإسلامي على رينيه غينون فارس الفكر التقليدي في القرن العشرين .
ثانياً _ إن غينون هو رد الثقافة التقليدية على تناقضات الحداثة و أزماتها ،إنه الرد الواضح والصريح الذي لم يلجأ إلى الاحتيال على المبادئ و التملق المذل لزخرف المدنية الغربية الحديثة عبر محاولات البحث عن القواسم المشتركة المزعومة فيما بين الحضارة التقليدية و نقيضها الذي هو العالم الحديث، إنه الرد الشجاع الذي لم يخشى الإعلان عن أن هذه المدنية بكل زخرفها هي أقصى ما يمكن أن يصل إلية الانحطاط الإنساني في نهاية الدورة الكونية نتيجة لابتعاد الوجود عن مبدئه الأول أقصى درجات الابتعاد . لقد استمد غينون هذه الشجاعة الفريدة من خلال ملامسته المباشرة لحقائق الوجود الكبرى التي تصل في الشمولية و العمق إلى درجة لا يمكن للصيغ الفكرية الكاريكاتورية الحديثة أن تتخيله أصلاً، إن الرويبضة الذي ينطق في آخر الزمان لن يدرك من وجوده الإنساني سوى ذلك البعد الذي يؤكد نظرية داروين، و إن العامة التي تطلب العلم لا عند أهله لن تدرك أبداً معنى قوله تعالى " إني جاعل في الأرض خليفة"
إن الحضارة الغربية الحديثة و الموقف منها قد شغل الفكر العربي على مدار القرنين الأخيرين و لا يزال لهذا الموضوع أصداءه و امتداداته في الحياة الفكرية العربية دون أن يكون هناك منهجية واضحة لمعالجة هذا الموضوع. إن غينون يقدم لنا هذه المنهجية التي تستطيع أن تخرج البحث التاريخي والحضاري الإسلامي من مأزقه الذي وقع فيه نتيجة لتبنيه وجهة النظر الغربية التطورية و التقدمية في التاريخ، إنه يعيدنا إلى أهم سمات النظرة التاريخية الإسلامية المتمثلة بالصيرورة القيامية للرؤية التاريخية و الحضارية. فالإسلام هو الدين الخاتم و الأمة الإسلامية هي التي شاءت الإرادة الإلهية لها أن تلعب دوراً أساسياً في الأحداث العظام التي ستقع في نهاية الزمان ، و بالتالي فإن التخلي عن الصيرورة القيامية في فهم الأحداث التاريخية و تأويلها هو تخلي عن المفتاح الصحيح في فهم الظواهر لكونية و التاريخية و الاجتماعية وحتى السياسية ، و لن يؤدي إلا إلى الضياع في متاهات العصر الحديث و ظلماته .
ثالثاً _ أن معرفة غينون الحقيقية لا تقتصر على قراءة مؤلفاته و ترديد أقواله ، بل هي تعني القدرة على الاستفادة من مبادئ الوعي التقليدي التي استطاع غينون أن يعيد صياغتها بشكل شمولي و إبرازها بوضوح في ظل تعقيدات و ملابسات العصر الحديث. لقد نقل غينون الفكر الديني بشكل عام من الماضي إلى الحاضر و حوله من تراث لا تأثير له إلا في إطاره الخاص، إلى منظومة فكرية قادرة على أن تلعب دوراً أساسياً في المعالجة الفكرية لكل أسئلة الواقع الحديث، إلا أن هذه النقلة على مستوى الوعي الفردي لا يمكن أن تتم إلا من خلال الانتماء مباشرة إلى منظومة تقليدية بعينها، إذ أنه لا يمكن القفز عن المنظومة التقليدية للوصول إلى الحقيقة التقليدية الأولى، إن الوصول إلى هذه الحقيقة و كما أكد غينون مراراً لا يتحقق إلا من خلال الانتماء إلى منظومة تقليدية حقيقية، أي إلى دين من الأديان الأصيلة، فأن تكون من أتباع غينون و التقليدية التكاملية يعني أن تكون مسلماً أو مسيحياً أو غير ذلك من الديانات الأصيلة.
إن هذا بالنسبة لنا كمسلمين يعني أن قراءة غينون و تفهمنا للمبادئ الأساسية للفكر التقليدي بشكل عام هو مقدمة مفيدة كل الفائدة لتحقيق انتقال الفكر الإسلامي من مستوى المنظومة الفكرية العقدية المغلقة و المحصورة في إطار امتداد جغرافي و ثقافي محدد إلى مستوى الانفتاح على العالم ومخاطبته في قضاياه و قضايا الإنسانية بشكل عام بلغة يفهمها دون أن نقدم تنازلات فكرية و دون التملق المذل للنظم الفكرية و الاصطلاحية الحديثة، و محققين في ذات الوقت مسؤولية الرسالة التي يلقيها علينا واقع كوننا حملة الرسالة الخاتمة التي لن ينقضي الزمان إلا بتحقيقها للعالمية الكامنة فيها لكونها متمثلة للحقيقة التقليدية الكلية الممتدة على اتساع الدورة الكونية بأكملها .
كذلك فإن قراءة غينون تعطينا إمكانية جديدة لتفعيل مقولات فكرنا التقليدي الخاص و إشراكها في الحياة الفكرية، إنها تدفعنا لقراءة جديدة لأدبنا الصوفي الغني و الفريد من نوعه ، هذا التراث الروحي و الفكري الذي لم يكد يخرج من أيدي المستشرقين حتى وقع في أيدي المؤسسات الأكاديمية المحلية موقعاً و الغربية منهجاً و أسلوباً، هذه المؤسسات التي لا تزال حتى اليوم تجتر مقولة المستشرقين حول مذهب الـ"panteazm" في التصوف الإسلامي .
رابعاً _ إن غينون يعطي من خلال حديثه عن النخبة التقليدية و دورها الفكري و العملي في الحياة الحديثة معنىً و رونقاً جديداً للثقافة و المثقفين ، و إذا ما كان قد أشار في كتابه " أزمة العالم الحديث " إلى أن هذه النخبة قد ماتت في الغرب دون أن تموت في الشرق، فإنه يشير أيضاً إلى تراجعها و تقلص دورها هناك، و لعل أبرز مظاهر هذا التراجع يبدو من خلال انتشار و توسع ما يسمى بالشريحة المثقفة .
لقد نمت في بيئتنا الفكرية و الاجتماعية على مدار القرنين الماضيين شريحة مستلبة فكرياً و مغتربة حضارياً، نهلت من مشارب الفكر الغربي الحديث و امتلئ جوفها بنظريات و مذاهب فلسفية واجتماعية و اقتصادية و سياسية مختلفة و متناقضة في كثير من الأحيان ، فأصابها الدوار و راحت تفرغ ما ابتلعته في صالات المقاهي و على صفحات طويلة من الكتب و المجلات و الجرائد اليومية التي لا تصلح إلا لمحرقة التتار .
لقد لعبت هذه الشريحة دوراً من أكثر الأدوار خطورة و سلبية في حياتنا الفكرية المعاصرة ، فكما أن اليهودي المقتلع من تقليده يلعب _ كما يرى غينون _ أكثر الأدوار خطورة في العداء للتقليدية و بناء هياكل التقليدية المضادة ، فقد لعب هذا الوعي المقتلع من بيئته ذات الدور في تهديم الوعي التقليدي و التأسيس لهياكل التقليدية المضادة، عبر تحوله إلى قناة تمر من خلالها منظومات فكرية مريبة لكل من اليهودي ماركس و اليهودي فرويد و اليهودي برغسون واليهودي سارتر وغيرهم ، دون أن يكلف أحدهم نفسه عناء و مشقة طرح السؤال حول سبب هذا التفتح المفاجئ للعبقرية اليهودية المزعومة في العصر الحديث ، حفاظاً على موضوعية مصطنعة ، أو خجلاً أنثوياً من أن يخدش هذا السؤال صورة المثقف الأنيقة اللبقة .
إن مفهوم النخبة التقليدية الذي يقدمه غينون، و الذي لا يتحقق على المستوى الفردي إلا من خلال الارتباط الوثيق بالمنظومة الحضارية التقليدية أولاً و عبر إنجاز التحقق الكامل لكل الإمكانات المعرفية و الخلقية الداخلية لهذا الفرد ، هو البديل العضوي للمثقف اللامنتمي و المنفصل عن تقليده .
في نهاية هذا البحث لا بد من الإشارة إلى أن أي دراسة عن رينية غينون لا يمكن أن تغني عن قراءة أعماله أبداً ، لأن هذه الدراسة لا يمكن لها أن تحيط بتلك الشمولية في الرؤيا و موسوعية المعارف ودقة التحليل و العرض . و أرجو من الله عز و جل أن أكون قد قدمت له بطريقة لائقة ، إن لم توفيه حقه فهي على الأقل لا تنتقص من قدره و مكانته .
لقد وضع الشيخ عبد الواحد يحيى نصب عينيه مهمة تعريف الغرب بالحقيقة التقليدية الخالدة في أعقد الظروف و أصعبها، و لذلك فقد سعى جاهداً لأن يقدم هذه الحقيقة في صورة مبسطة بعيدة عن التعقيد، حتى و لو كان ذلك على حساب الأسلوب في كثير من الأحيان، و مع ذلك فإن أعماله تبقى جزأً جديداً يضاف إلى التراث الفكري الصوفي الإسلامي الخالد، هذا التراث الذي لا يمنع منه أحد ، إلا أن كلً يأخذ منه على قدره و استطاعته .

(ما ورد في هذا البحث لا يعبر بالضرورة عن رأي الملتقى الفكري للإبداع)
--------------------------------------
الهوامش

(5) إن هذه الفقرة و ما يليها من فقرات عن كتاب " مملكة الكم و علامات الزمن تمت ترجمتها عن النسخة الروسية من قبل المؤلف"
(6) يشير غينون في مكان آخر من هذا الفصل ، إلى أن الحركة الكونية الانحدارية التي يعبر عنها بالانتقال العام و الشمولي من النوع إلى الكم لا يمكن أن تصل إلى حدودها القصوى مطلقاً ، لأنه لا وجود أصلاً لكم بدون نوع ، و لو افترضنا أن الوجود قد يصل في لحظة من اللحظات إلى انفصاله التام عن النوع لأختفي و تبدد في اللحظة ذاتها .
(7) يقصد غينون بذلك ظاهرة التنويم المغناطيسي التي بدأت في القرن الثامن عشر علي يد مسمير .
(8) يستعمل غينون مصطلح القوى النفسية مقابل القوى الروحية، استناداً إلى التقسيم الإسلامي الذي يرى الروح مجالاً للتأثير الملائكي، و النفس مجالاً للتأثير الشيطاني.
(9) يترجم هذا المصطلح في بعض الكتب المتخصصة 0اسات الأديان و المعتقدات ، ككتب مرسيا إلياد، بطقوس التنسيب، انظر مثلاً ترجمة حسيب كاسوحة لكتاب مرسيا إلياد " التسيب و الولادات الصوفية ، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1999.
(10) يمثل البراهمانيين طبقة رجال الدين أو السلطة الروحية في حين يمثل الكشاتري طبقة المحاربين ، أو السلطة المدنية
(11) ربما تكون هذه الجماعة هي منظمة " بناي بريث " الماسونية و التي كان فرويد عضواً فيها ، وربما تكون جهة أكثر خطورة من ذلك .
(12) يجب أن نميز بين هذه المنظمة و منظمة الوردة و الصليب التنويرية في العصور الوسطى
(13) كما تنتظم قوى التقليد التنويرية في هيكلية تراتبية ، كذلك تنتظم التقليدية المضادة في تراتبية عكسية، و قد أوضح غينون التراتبية التنويرية التقليدية في كتابه " ملك العالم " .
 
التعديل الأخير:
كتاب خطأ الروحانية

1548425761559.png

تعريف الروحانية
أصول الروحانية
بدايات الروحانية
الطابع الحديث للروحانية
الروحانية وسحر التأشير
الروحانية و السايكولوجياالعقلية شرح الظاهرة
شرح الظاهرة.
مراجعة نظريات التواصل الأرواح
تنوع المدارس الروحية
تأثير البيئة
الخلود والنجاة
تمثيلات البقاء
التواصل مع الموتى
المغالات التناسخية
حدود التجريب
نظرية التطور الروحية
مسألة الشيطانية .
العرافون والمعالجون
الانطوانية
الدعاية الروحانية- البروباجاندا
مخاطر الروحانية
الخلاصة
 
رموز العلم المقدس

مشاهدة المرفق 1642

من النادر ان يجمع شخص مثل هذا المؤهل العلمي و الموسوعي لتأليف كتاب يحتوي على الكثير من التفسيرات المضيئة للرموز التقليدية و الروحية الأكثر تنوعًا. كتاب أساسي لجميع من يطمح إلى توسيع و اثراء معرفته في هذا المجال المثير
شكرا كثيرا على هذا الموضوع اريد فقط معرفة اذا كان لديك رابط الكتاب بالفرنسية Symbole de la science sacrée وشكرا مرة اخرى
 

الحالات المتعددة للكائن
الانسان ما هو الا حالة واحدة من الحالات المتعددة للفرد ، ولا يمثل في حقيقة الأمر إلا ظاهرا مؤقتا وعارضا بالنسبة لجوهره الحقيقي، ومثلما ترتبط الصور بالشمس التي لولاها لما كانت هناك صور منعكسة، فإن الفرد مرتبط بالمركز الأساسي لكينونيته ، عن طريق العقل الفعال الاستعلائي

النسر ، الطائر الذي يمكنه ان ينظر الى الشمس مباشرة يرمز غالبا الى الذكاء الحدسي او المعرفة المباشرة للنور

1805
 

المبادئ الميتافيزيقية للحساب
غير مترجم للعربية
مثل كل العلوم الحديثة تواجه الرياضيات مشكلة النفعية و البراجماتية، فلم تعد هناك رياضيات محضة ، هذا العلم الذي يمثل المعرفة العقلية الاقرب للميتافيزيقيا و للحقيقة صار يعاني من ازمة مبادئ هو الاخر


1806
 

أداب الحوار

المرجو إتباع أداب الحوار وعدم الإنجرار خلف المشاحنات، في حال كانت هناك مضايقة من شخص ما إستخدم زر الإبلاغ تحت المشاركة وسنحقق بالأمر ونتخذ الإجراء المناسب، يتم حظر كل من يقوم بما من شأنه تعكير الجو الهادئ والأخوي لسايكوجين، يمكنك الإطلاع على قوانين الموقع من خلال موضوع [ قوانين وسياسة الموقع ] وأيضا يمكنك ان تجد تعريف عن الموقع من خلال موضوع [ ماهو سايكوجين ]

الذين يشاهدون هذا الموضوع الان (الأعضاء: 0 | الزوار: 1)

أعلى