هناك عدد محدود للقراءات المسموح بها للزوار

[2] هو عدد القراءات المتبقية

علم العقل الزمني : التوجيه الروحي لقوة العقل في الشفاء والتنويم وعبور الزمن - المرحلة الأولى : حقيقة العقل

سيد الأحجار السبعة

عابر الزمن الثالث
المشاركات
599
مستوى التفاعل
1,059
الموقع الالكتروني
alkynilogy.blogspot.com

ناموس النفس الإدراكي

توماس جاي هُدسون {1} 1891
يا خادمَ الجسم كم تسعى لخدمته ... أتطلُبُ الربح مما فيه خُسراناً
أقبل على الروح ، واستدرِك فضائلها ... فأنت بالروح لا بالجسمِ إنساناً
أبو الفتح البستي


pxfuel.com (3).jpg

أهلاً بحضرتك ... حديثنا اليوم عن العقل والزمن​


هو الكتابُ الثالث من كتب الكينياء ، وتطبيق عملي لجلّ ما فيها ، وكما ترى فإنه مرحلة متقدمة ومع ذلك ، آثرنا عرضها قبل انتهاء المراحل السابقة ... لأن الانقطاع الزمني بين النظر والتطبيق ، وبين العلم والفعل ... يورِث الغفلة والشك والشتات ، فكانت أفضل وسيلة لعرض الحقيقة وتعليمها هي السعي العملي المتوافقَ معها ، فيكون العلم ليس إلا الاتصال الدائم مع الحقيقة المُطلقة ورحمة الله ، الذي يكسب القلب والعقل تثبيتاً تاماً ودقيقاً ، ويجعل الطريق سلاماً نحو الوصول بسكينة وصفا إدراك.

اخترتُ لحضرتكم أربعة محاضرات رئيسية من كتاب ناموس النفس الإدراكي The Law Of Psychic phenomena لتوماس جاي هودوسون ، وقد يبدو غريباً ، وهو كذلك أن تختار كاتباً من أكثر من مئة سنة لتترجم عمله على أنه حجر تأسيس لعلمٍ جديد ، والحقيقة التي يعلمها كل من مارس الترجمة وأحبها في هذه المواضيع ، أن المترجم فيلسوف وباحثٌ علمي بطريقته ، لا يقل أهمية بعمله عن عمل الكاتب الأصلي بشيء ، وإنه ليعيد قراءته ويوجهها بشكل جديد ... كلما تعمقت بجملة من جمل المحاضرات التي سأعرضها عليك ، ستكتشفُ المزيد والمزيد من التفاصيل والحقائق ، كما سيتضحُ مع عبورك لمحطات الحواشي والشرح.

إن هذا الكتاب يخفي سراً رهيباً ، لقد كانت بدايتي معه أن حطم كل محاولة مصطنعة للتيقن من الواقع الزمني كما يبدو للمرء بسذاجته المعهودة ... إنك ستحس بأحاسيس غريبة تحمل عبق زمن الغرب في بدايات القرن المنصرم ... وتشهد توحد الزمنين هنا وهناك ، كأنك تمشي بين طرقات القناديل المسائية في مدينتك ، كأنك تمشي في نفس الطريق بذلك الزمن ، بينما تقرأ الصفحات ، ومن ثَمّة ستتعرف ما هو السحر الظلامي ، ما هو السحر النوري ، من هم الجن ومن هم الشياطين ، كيف هو العبور نحو عوالم المُطلق الجميل وحضرة الأنس.

مدارس العلاج العقلي والفرق بينها وبين مدارس العلاج النفسي الدوائي والسلوكي ، التي تروج اليوم ... ما هو التنويم المغناطيسي الصحيح ، وما هي مدارِسُه ، كيف تتحكم بنفسك وواقعك ، وكيف يمكن علاج الإنسان من أي علة ممكنة دون تدخل أي دواء أو مشرط ، بل دون حتى تدخل الأعشاب والغذاء ، وسنعرض للتطبيق العملي لذلك بإذن الله.

لا تنسى أن غاية الحاية ليست مجرد تحصيل المعارف والعلوم والشهادات ، بل هي تجاوز الواقعة الزمنية نفسها والتحرر من الارتهان ضمن مصفوفتك ، هذا العبور هو المعنى الحقيقي للدين ، وهو المعنى الحقيقي لليقين الموعود والسعادة المُطلقة ... إنه غاية حياتك الأسمى أن تكون عابراً للزمن ، وتساعد غيركَ في العبور نحو عوالِم المُطلَق ... وهذه كانت غايتي الحقيقية حين ابتدأتُ الترجمة ، وحين ابتدأتُ التعلم والتطبيق ، ومن هذه الغاية الشريفة تأخذ الحياة بهجتها وحضورها وتخرج عن كونها إجراءً عديم الجوهر والمعنى وعديم الجمال.

لذلك لن تستفيد شيئاً إذا طبقت ما سأعطيه لك من أجل التحدي والغرور ، أو تحقيق المنافع المادية أو بعض المتاع الزمني المزيف ، ستندمُ ندماً شديداً وستدخل في محاكاة زمنية سيئة للمستقبل ما وراء الزمن ، بالمقابل ... لحظةَ أن تكشف الواقع وترضى بالقدر لعلمك بزيف الدنيا ، لحظة الرضى هذه هي أجمل متعة ممكنة ، لتعبر أصلاً من نطاق الدنيا نحو العوالم الأخرى ليس فقط بمشاعرك ، بل أيضاً بكامل إدراكك فتنقطعُ الصلة بينك وبين الظلمات وتخرج منها ... هذه غاية الكاتب والمترجم ، الوصول للصلاة الحقيقية والبحران في رحمة الله عبر العالمين.​

المحاضرة الأولى : الزوجية وحكم العقل{2}


الثالوث التكويني عبر التاريخ :

المبدأ العلمي ، أن الإنسان وُهب منظومتان عقليتان ، بعيدة عن كونها حادثة في التاريخ. الأساس العلمي لهذا التنظير تم الاعتراف به من قبل كل الفلاسفة عبر العصور، وكل الشعوب التي لديها ثقافات. كون الإنسان ثالوثاً ، كوِّن من الجسد ، الروح ، والروح الإلهي الحاكم له ... كان عقيدة جوهرية في نفوس حكماء وفلاسفة الإغريق الأقدمين ، أولائك الذين أعلنوا ازدواجية شخصية المرء العقلائية، شملت تعاليم أفلاطون الإنسان ككيان يتحد فيه الروح الإلهي ، والروح البدني ، والجسد الأرضي ... تضمنت رموز الهرمسية التصوفية نفس الفحوى ، وانعكست في الخيمياء : الملح والكبريت والزئبق إشارة لثالوث ركائب الأحجار التي تنبعث منها كينونات الناس ، وهذا أمر معروف.

احتوت تعاليم الآباء المؤسسين للكنيسة نفس الدلالات والمعاني ، كما ظهر في كتابات كليمينت ، أوريجن ، وتاتيان. الحق ، سليمة هي الدعوى ، المفهوم العقلي لهذا الأساس العلمي كان موجوداً دائماً في تعاليم جميع الفلاسفة عبر العصور ، سواءً الوثنيين أو المسيحيين {3}. هي أساس تأويلهم للإله كثالوث بشخصيته ، وبطراق تواجده ، وبتجلياته ... وكما يخبر شيلنغ عن هذا التأويل :

"فلسفة علم الأديان تبرهن أن ثالوث التجلي الإلهي في الوجود ، هو الأصل الذي تنامت عنه التأويلات الدينية في جميع الأقوام التي عرفناها ممن لهم أهمية تاريخية واضحة".

في الأوقات الأحدث ، سويدنبرغ الذي آمن بأنه قد أوحي إليه من الله ليكمل تعاليم السيد المسيح ، يعلن :

"يتبع كل امرء ، ذات باطنية ، كينونة منطقية ، وكينونة خارجية والتي يمكن تسميتها بالكينونة الإنسانية الجسدية ، ومرة أخرى يخبر : "هنالك في الطبيعة ، أو في الحياة ، ثلاث مستويات وجودية : "الطبيعة الزمكانية ، الطبيعة الروحية ، والطبيعة اللاهوتية".

ومن الكتاب المحدثين ممن يقبل نظرية التناظر الزوجي ، البروفيسور ويغان ، دكتور براون سيكوارد وبروفيسور بروكتور هم أمثلة بارزة ، العديد من الحقائق التي اكتشفوها شكلت أدلة لجوهر الرؤية الزوجية للعقل ، رغم تأسس نظرياتهم حول عِلّية العقلائية على المعارف التي تتناول التشريح الدماغي ، مما لا يقدم إمكانية اختبار تجريبي لحظي لقوة العقل ، في ضوء حقائق علم النوم الموجه. في السنين الأكثر تأخراً ، عقيدة التناظر العقلي الزوجي صارت أهم المبادئ الواضحة في فلسفة الكثير من الخبراء القديرين في علم النفس الحديث.

ممكن هو الاستشهاد بآلاف الأمثلة ، أن تلك الحقيقة اعتُرف بها بأسلوب مُبهم من قِبَل الإنسانية في جميع الأعراق والحضارات ، بل في كل شرط ممكن للحياة ... إنه لتوقع سليم ، لكل إنسان يملك قدراً من البصيرة واليقظة والتهذب ، أن يكون اختبر في نفسه حِكمة داخلية ، لا تتعلق بتعليمه التاريخي الذي يعيه ، واستبصاراً لحقيقة لم تأتي من شهادة الحواس الجسدية التي يُدرِكُها.

التعريف بموضوع عِلم العقل :

إنه لأمر طبيعي أن يُدرِك المرء أن الحُكم الصائب جوهرياً ، بالنسبة لما قد التفتت البشرية نحوه واعتُرف به عبر العصور ، ليس فقط حقيقة ثابتة تؤسس الزمن ، لكن إذا تم إدراكُه وكشف مكنونه بالفهم {4} سيتكون كدالة تُستخدم في توجيه الزمن لخدمة أهم القضايا المصيرية للإنسان الفرد والجمع.

رغم كل ذلك ، لم يوفق السعي ، لأجل تعريف حدي فاصل {5} واضح لكلا الطرفين الذين يشكلان زوج العقل ، ولم يُثبت أحد أن هذا العقل لديه هُويتين منفصلتين ، وهي حقيقة لا تقبل التشكيك ، أن الخط الفاصل بين العقلين واضح للإدراك ، ذلك بأن كلاهما يقوم بأفعال وجودية متباينة ، أن كلاً منهما وُهب صفات وقِوى مختلفة ، أن كلاً منهما ، بالتوافق مع شروط خاصة ، يقوم بأعمال مستقلة عن الآخر.

أولاً : تسمية موضوع البحث :

كمحاولة لاختيار أمثل تسمية ، سوف أدعو كلاً منهما وفق بنيانه المنطقي-الوظيفي {6}، فيكون الأول هو "العقل الموضوعي" – جنس التعريف هنا هو العقل والفصل في الجنس هو معيار الموضوعية مقابل الذاتية – والآخر هو "العقل المُفارِق" – والذي يُفارق قوة الإدراك فلا يقع موضوعاً لها ، هذا ما قصده باستخدام لفظ : الذاتي" - وحيث يتم هذا ، يجب أن تصبح التعاريف الشائعة معدلة ومُسهبة قليلاً ، لكنها تبدو الأقرب إلى المعنى الدقيق الذي أقصده ، من أي تعاريف أخرى تحضرني ، لذا ، أحبذ الاعتماد عليهم ، ولا أبذل جهداً في صياغة أخرى تخصني.

العقل الموضوعي – بشكل قياسي – يأخذ معارفه من العالم الموضوعي "المُفارق للذات" شاملاً الحواس الخمس الفيزيائية المحلية كوسائل لتلقي المعرفة ، هي دليل إرشاده في نضاله ضمن محيطه البيئي المحلي ، وأعلى وظائف هذا العقل هي الحوسبة المنطقية التطابقية.
اكتشاف الأسباب والناتج والتجريد والربط ، والتركيب والتحليل ولكن ، بطريقة يخضع فيها كل عنصر معقول إلى المرور مُفرداً عبر عتبة الوعي الذي لا يُدرك أكثر من عنصر واحد في كل مرة يتم فيها التركيز ، فهي نوع من التطابق الطوبوغرافي المحلي للأفكار. ويفترق عن العقل الذاتي في أن الأول هو صلة وصل بين العالم الموضوعي والعالم الذاتي ، أما الثاني فهو ذاته عين الموضوع أو جزءٌ منه ، فوجوده دائماً مُفارق للذات ومستقل عنها من حيث الإدراك ، ولكنه يؤثر بها رُغم ذلك بتأثيره على العقل الموضوعي ... لذلك رأيت التسمية الصحيحة والدقيقة للعقل الموضوعي هي : عقل الحضور أو العقل الحاضر\الحضوري أو المُدرَك ، بينما التسمية الصحيحة للعقل الذاتي هي عقل الغياب ، العقل الغائب\الغيبي أو اللامُدرَك ... وينتمي العلم الحصولي من حيث حضوره إلى العقل الأول ، أما من حيث علله الغير حاضرة وما يُخبر عنه فهو من العقل الغيابي.

ثانياً : العوارض اللاحقة بذات كل من العقلين :

يأخذ العقل الذاتي{7} بياناته من المحيط الفوق مادي ، وبطرق لا تعتمد على الحواس الفيزيائية ، وعند إدراك نتائجها بقوة الوعي ، تسمى بالحدسيات إذا كانت فهمية ، وبالأفكار التلقائية أو المنعكِسة إذا كانت مجرد توجيهات وظنوناً عن موضوع التركيز الحالي ، فهو مِقعد العواطف ، وبيت المؤن للذاكرة.
_ وتنقسم الذاكرة في العقل الغائب إلى ما يُمكن استدعاؤه بترابط الأفكار ، وهو محدود بنطاق إيمان المرء بمدى ذكرياته ، وهنالك ما لا يمكن استدعاؤه ، لأن أغلب الناس يعتقدون بحدود فاصلة بين ما هو موصول بالذاكرة في عالم الغياب ، وما هو معزول عنها ، رغم أن الزمن كغياب ، هو وِحدة واحدة ، والعلاقة معه وِحدة واحدة ، والعلاقة معه ترسم أُفق العقل فيه وليس العكس ، لكن الناس يستحبون أن يتحكم بهم الزمن إلى حد معين بحيث يستمر التفاعل بين الحضور والغياب لتستمر اللُعبة والمتع الزائفة ويُلبس الحق بالباطل ، أما من ناحية فينومينولوجية ، لا فرارق حقيقي بين الذاكرة ، والتخيل ، والتصور ، والعيش نفسه ، إلا من حيث القيود التي تمنعك من العيش خارج محيطك المحسوس ، واستذكار ما لم تعشه ، وتخيل وتصور ما لا تتذكره ... أما من حيث الوجودية ، فجميعها شيء واحد ، لكنه عندما تتقيد به محلياً : تسميه واقعاً زمنياً ، وعندما تتقيد بغيابه عن المحل وحضوره في ذاكرتك ، فإذا عرفته سميته ذاكرة وإذا لم تعرفه سميته تصوراً وتخيلاً ... وبانتفاء قيد المحلية وإيمانك ويقينك أنك تقدر ، فكل ما تتذكره سيكون واقعاً ، وكل ما تتخيله سيكون واقعاً ، فلا يغدو هنالك معنىً للماضي والمُستقبل ، بل ستجده حاضراً أمامك ماثلاً لك ، إن أبقيته في غيابه ستعيش في مُحاكاة افتراضية تخلق فيها ما تشاء ، لكنها مجرد معدومات تتغذى على قوة وعيك وتسليك مقابل ذلك ، وإن أرجعته للحق ، ستعيش في الواقع الجميل ويكون لك قيمة من حياتك ، وليس مجرد تأويلات جوفاء.

إنها تُنجِز وظائفها العُليا عندما تخفت الحواس المادية ...

_ لأن الحواس المادية تُقيد العقل الموضوعي الحضوري وترسم حداً فاصلاً بينه وبين العقل الذاتي الغائب ، ويكون هذا الفاصل ، هو العالم المادي المسخر للخدمات المادية ، ويكون كل ما وراءه غائباً عن الحضور في الأحوال العادية ، وفي لحظة السكينة ، توقف التركيز على العالم المحدود وانبعث شعاع الإدراك نحو الغياب فحدثت شهادة لأشياء وعوالم لا صلة بينها وبين الواقع المُعاش.

بعبارة موجزة : فتفاعل العقل الغيابي هو البناء العقلي للزمن ، هذا التفاعل الذي قد يستدعي نفسه إلى الحضور في حالة التنوّم ، نوم الإدراك عن حدوده وغيابه عن الانشغال بها ، يمَكن الإدراك من الاتصال بما وراء الحدود ، ولكن ، نوم الإدراك عن حدوده مع بقاء تجسد هذه الحدود في العالم المادي ، ومع جعل العقل الغيابي في وضع التلقي السلبي ، يفتح المجال لمن يتصل بهذه الحدود أن يتصل بالعقل الغائب لشخص المُدرك من خلال جسده - أو نفسه - الذي فارق رقابة الإدراك ، وسمح بدخول قوى غريبة عليه ، - وهذا هو أساس السحر – بكلمة واحدة : إنه تلك القوة البنائية الزمنية الغيابية "الذكاء الغيابي" التي تخرج موضوعياً للوجود أثناء وبعد تنويم الوعي ، الدخول في "السمنمة somnambulism".

أكثر عجائب العقل الغائب ، تظهر للمراقب في هذه الحالة ، يبدو – للإدراك الشبحي – أنه يصبح قادراً على الرؤية دون استخدم العيون الفيزيائية ، قادراً على الانتقال بشكل ما من أرض إلى أرض أُخرى ، ومن زمن إلى زمن آخر ... يقرأ صفحات الكتاب دون فتحه ، يقرأ أفكار الآخرين ... بعبارة أخرى ، يبدو أن هذا العقل يقوم بالتآثر مع الآخرين ومع الزمان والمكان ، ما يُسمى بالاستبصار ، دون استخدام وسائل موضوعية مُفارقة لذاتيته المستقلة بما هو عقل ، أو وسائل مقيدة لها ، مثل الحواس والأجهزة.

وبجزئية من الحقيقة ، ذلك الذي أسميته بالعقل الذاتي\الغيابي ، يبدو أنه كائنية مستقلة بذاتها ومختلفة جوهرياً عن الوعي والعقل الوضوعي\الحضوري. والفرق الوصفي يبدو للمراقب ، أن العقل الحضوري \ الموضوعي ليس سوى تمظهر فعاليات الدماغ الفيزيائي في وظائفه المعرفية ، حينما يكون العقل الذاتي \ الغيابي كينونة مستقلة ومختلفة الأوصاف تماماً ، غير مُرتبطة بالدماغ ، إنه يعمل بوقود مختلف ووظائف مُستقلة ، وقائم بمنظومة ذهنية خاصة ، توجد باستقلال عن الجسد من حيث التأثّر والرصد ، ومن حيث التأثير. بعبارة أُخرى ، إنه "روح المادة ".

ينبغي للطالب أن يحفظ هذا الكلام جيداً ويستذكره أثناء تقدم البحوث.

الاقتراحات وحُكم العقل :

- يبدأ هودسون الآن ، الشروع في البحث بالعقل من حيث علاقة الذات به ، بما هو صلة الوصول للذات والزمن إلى بعضهما ، وهذه العلاقة هي ما يكشف جوهر العقل وبنيانه الوجودي ، من حيث التحليل الحدسي لآثار هذا البنيان على الوجود الزمني والذاتي ، وفق عبر ذلك يمكن الخلاص نحو آلية التحكم بالعقل ، والتحكم بالزمن عبر العقل ، بما هو عقل غيابي مُفارق لحقانية الذات .....

فرق شديد الأهمية ، بقدر ما هو شديد الغرابة ، يتعلق بكيفية توجيه مصفوفة العقل الذاتي والرموز والدلالات والعلل التي تؤثر بها ، وبهذا الخصوص ، أفادت كثيراً بحوث المنومين المغناطيسيين ، سواء ما إذا اتفقنا مع مدرسة باريس في إعطاء الاقتراحية "قوة المعنى الموجه بالرمز" أهمية خاصة للعلم النفس الإدراكي ، أو كما قررت مدرسة نانسي أن تعزو كافة الأحداث على مسرح النفس لهذه القوة ، فلا يدخل الشك أبداً أن الاقتراح الذي يتم بعثه للعقل ، وتصميمه في بناء مُحكم أو منضبط ومتناسب مع الطلب ومع عقل المضيف ، سيبلغ مقصده.

المبادئ العقلية الأُمِّية :

ما سأتلوه عليك من مبادئ ، لا يشك به أي دارس عاقل للتنويم الإيحائي والمغناطيسي :
  • الإنسان المُتصل بالزمن الموضوعي عبر عقله المُدرَك بوعيه ، لا يتلقى الاقتراحات الخارجية ، سواء كانت أسباباً ، أو قوى ذهنية ، أو رموزاً أو تعليمات ، بحالة سالبة تماماً ، بل فقط ضمن الإطار الذي يسمح به وعيه ، أو عبر الفتحات التي قام بفتحها لدخول المعلومات للاشعور في السابق ، وبغض النظر عن قوة الملقي للاقتراحات وضعف المُستقبل لها.​
  • الإنسان المتصل بالزمن الموضوعي من خلال عقل الغياب دون إدراكه المباشر ، يسمح بالتقاط كل ما يسمح به عقل الغياب ، وبما أن أغلب الناس ليس لديها حصنٌ لهذا العقل ، فإنها تتلقى الاقتراحات الذهنية بكل سهولة من المنومين. أي ، عقل الغياب سالبٌ تام ، والعقلُ الموضوعي موجب بالنسبة لعقل الغياب ، سالب بالنسبة للوعي الذي يضيؤه.​
لذلك أقول : إن العقل الذاتي\الغيابي ، يتقبل دون شك أو تردد أي اقتراح يمتزج بمدركيته ، كحالة بدئية ، وبغض النظر عن جميع الاعتبارات ، لا يهم مدى سخافة المُقترح أو تناقضه مع العقل السليم ، والمنطق ، والفطرة والخبرة الشعورية للفرد.
_ هذه الحالة البدئية السالبة ، لا تلبث أن تتعبئ عبر الاقتراحات التي تأتي بقوة الوعي ، الذي يتخذ مواقف وقرارات من المحيط الزمني حوله ، إن هذه المواقف والقرارات تُسجل على عقله اللاشعوري تماماً كتسجيل المعلومات على صفحات الكِتاب أو ذاكرة الحاسوب ، ومع مَرّة الأيام ، يتزاوج العقل اللاشعوري مع العقل الحضوري ، فيصبح كلاً منهما مؤثراً في الآخر ، فما وافق العقل الحضوري ، ومن وراءه الوعي ، على اتخاذه حُكماً غيابياً نهائياً لمسألة ما ، أو على موضوع زمني مُحدد ، وإخراجه من طَور الرقابة ، يُصبح مُسجلاً في اللاشعور ويتم استدعاؤه بشكل لاشعوري نحو العقل الوضوعي ليفكر عبر الإطار الذي سمح به ذلك الحُكم المُسبق ، بينما يقوم العقل المُدرك\الموضوعي بتلقي المعطيات بشكل هُلامي وشبحي من الخارج ، ويتركها لعقله الغائب كي يعالجها ويستنتج منها قيوداً جديدة تُضيق عليه ضائقته ... فلا يعود هنالك حاجة للانفصال التام بين حالتي الشعور واللاشعور لتلقي الاقتراحات بشكل سالب ، لكن من ناحية أُخرى ، ستنشأ مُقاومة نفسية لأي مُقترح لا يتوافق مع سجلات العقل الغيابي ، وذلك سواء برقابة العقل المُدرَك أو بلا رقابته ...
_ لا تتوقع للعقل المُدرَك ، أن يكون منطقياً وضميرياً لمجرد أنه تحت إشراف الوعي ، لأن هذا الوعي الفعّال عندما سلبه العقل إشرافه ، تحول لوضع المُراقب العطالي الذي يغذي العقل بالطاقة اللازمة ، ليكون له وجود في الزمن ، وفقط ، وبِعبارة أخرى ، ليس الساحر أو الشيطان هو من يقع عليه اللوم ، بل من سمح لعقله بقيادته ، ثم سمح للآخرين بقيادة عقله \\ المسألة الثانية التي يثيرها المؤلف ، أن قوة استقبال العقل للاقتراحات الجديدة تعتمد على عاملين ، توافق الاقتراح الجديد مع الاقتراحات المُختزنة سابقاً ، وقوة الدافعية التي تربط كلاً من التوجيهين بالعقل ، فاقتراحٌ ذو دافعية عالية ، يمكن أن يمحو جميع الاقتراحات منخفضة الدافع مهما تم تكرارها ، إلا إذا أفضى هذا التكرار لإيقاظ العزيمة في الوعي على التغيير ، لذلك ، تثبُت العقد الجنسية في اللاشعور ثباتاً يجعل الوعي يرى تغييرها مسألة خيالية أو خارقة للطبيعة ، والحق ، هذه العُقد ليس فيها أي قوة فهي مُجرد أفكار وتأويلات ما أنزل الله بها من سُلطان ، لكنها رُغم ذلك ، ترتبط بطاقة الوعي الذي يقاومها نفسه ، ترتبط به من حيث يظنها اللاشعور تلبية لما يرغبه الوعي ، وينشغل الوعي عن حقيقتها وهي أنها كائن ظني وهمي موجود في اللاشعور والغياب ومنعدم ضمن آنية الزمن ، لذلك يقاوم شيئاً آخر يحسبه أنه هو تلك العُقدة ، مثل الهرمونات الدماغية والوراثة وذكريات الطفولة ، وغيرها من عوامل خارجية وعَرَضية تنسج الشبح ، الذي يمتص اقة الوعي ويتغذى على مقاومته ، وكذلك الشيطان والسحر {( ما كان لي عليكم من سُلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي )} {( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوه واخشونِ إن كنتم مؤمنين )} ...

بناءً على ما سبق ، إن قام شخص ما بترسيخ اقتراح في عقل الغياب لشخص آخر ، أو لموضوع آخر ، بأنه كلب أو بهيمة الأنعام ، فسيتصرف ذلك الشخص أو الموضوع على هذا الأساس والنحو بكل ما مكنته قواه الجسدية وخريطة مُعتقداته أن يقوم به. وإن ترسخ في لاشعوره أنه رئيس شعب ما ، كالولايات المتحدة ، سوف يلعب الدور بإتقان تام التفاني ، وإن تم توجيهه ليكون واحداً من الملائكة المُقربين ستجده تحول لكائن شديد الرقة ، ومُعتدل السلوك ، وفق ما بباله اللاشعوري حول الملائكة ، وإن تم إخباره أنه شيطان أو في حضور الشياطين ، سيمتلئ بالفزع والخوف ... – ت: إن تلك السلوكيات الموضوعية ، ليس لها أساس في إدراك الشخص الذي تم انتزاع عقله من اتصاله بوعيه ، فهو يتظاهر بذلك ، بكل ما استطاع ، ودون أن يحس بشيء ، أو يتحكم بشيء ... وهذه الكائنات موجودة في ذاكرة اللاشعور وهي منطقة من الزمن المحلي الذي لم يتجسد لنطاق أرصاد المُراقبين بعد ، فهي معدومة من حيث خلوها من الإحساس الوجداني ورغم ذلك ، أحياناً تصيب شيئاً منه ، ليس بسبب وعي الشخص ذاته ، بل الوعي الكامن في أعمق أعماق الزمن والغياب ، والعقل.

يعلم المنوِّمون والمسمريون جيداً ، إذا أخبروا الشخص النائم بأنه أصيب بحالة تسمم بعد أن أعطوه كأس ماء عادي ، وأن هذا الماء هو سم ، فستظهر أعراض المرض والحُمى مباشرة على وجهه وجسده ، ونفس كأس الماء هذه ، ستجعل المخمور يخرج من حالة السُكر إلى اليقظة{8} ، بعبارة مختصرة : يمكن للمرء أن يحس\يشعر\يلمس\يتذوق\يرى\يسمع\يتفاعل مع أي شيء غائب عن الزمن المحلي ، عندما يسمح لعقله الباطن الغيابي بالاتصال بتلك المواضيع \ بقوة الاقتراحات الذاتية أو القادمة من الخارج والآخرين. نفس قوة العقل الذاتي ، ترفع الإنسان في الترقي الأخلاقي وتبعاته العلمية والحكيمة التي يتسنى للعقل المهذب أن يهتدي لها ، وتخفصه إلى مرتبة أدنى من الأنعام والبهائم عند فقدان السيطرة عليها أو توجيهها بنية خاطئة.

مبدأ التفاعل الجدلي بين العقلين :

يوجد حقيقة مطلقة ، معروفة ومختبرة جيداً من قبل السحرة والمنومين المغناطيسيين : هنالك مبدأ آخر غير السابقين على أي حال ، والذي يجب أن يلاحظ ويشاهد من نفس البوابة ، ويبدو أن جوهره لا يُفهم بشكل حسن من قبل الطلاب ، أسميه "الأثر المُدرَك للاقتراح التلقائي". أدرك البروفيسور بيرنهايم وآخرون ، ذلك المُستوى الوجودي المؤثر ، وقدرته على تعديل النتائج أثناء تجاربهم النفسية ، ولكن قد يفشلون في كشف كامل دلالتها الوجودية ، لأنها ستغدو حينها متفاعلة مع قانون آخر ، أو قاعدة أُخرى للعقل ... دون أن يدركوها.

إنها تُعدل أي حالة ، وكثيراً ما تبدو خَرقاً للقوانين الكُبرى ... إذا فهمتها بصواب ، ستُدرك أنها عين تلك القوانين وهي مُطبقة ضمن حالات استثنائية تتداخل فيها العوامل الفاعلة. اختلاف العقلين بالعلة الجوهرية لكلا نظامي الاصطفاف الزمني الغيابي ( ومن ضمن ذلك صفوف المشاعر والأفكار ) ووقوع علة الصف الشعوري على عاتق الاختيار الواعي المُدرِك الحر ، ووقوع علة الصف اللاشعوري تحت تأثير الاقتراحات التي تصل للعقل أياً كان مصدرها ، يتلازم مع قبول العقل الغيابي للاقتراحات المقدمة من العقل الحضوري كما من أي مصدر آخر يتصل به ، بما في ذلك العقول الذاتية والموضوعية للكائنات الواعية الأُخرى "التخاطر"{9}.

ومن الثابت تجريبياً ، أن ليس من الممكن تنويم شخص إذا أراد أن لا يخضع للتنويم ، وفي حال وافق بعقله الموضوعي على التنويم ، ولم تنجح العملية ، يعود ذلك لقوة الاقتراح المضادة التي أبطلت اقتراح التنويم{10}. أحد الموضوعات الجذابة التي تم تنويمها والمعروف للمؤلف ، شخصٌ لا يمكن أن يقبل أن يوضع في موقف حرجٍ أبداً، قد وُهب تصميماً شديد الاحترام لشخصيته ، وكان حساساً جداً للإهانات والسخرية ، وتظهر حساسيته في دفاعاته السلوكية ... ولم يتقبل أثناء وضع التنويم أي اقتراح يدفعه لسلوك مُحرج.

مرة أُخرى ، إن امتلك الموضوع المنوَّم ضميراً ينهاه نهياً ، عن شرب المُسكرات القوية ، ليس من قيمة تُذكر لمحاولات المنوِّم\الساحر لإرغامه على شُرب الكحول وكسر قانونه الراسخ – لذلك وفي مِثل هذه الحالة ، يتم اللجوء لأحد الطريقين ، إما الكشف عن العقائد العميقة التي تمنعه من السلوك المطلوب ، ثم محاولة تفكيكها عن دوافعها بإعادة التأويل ، أو ، تعطيل رفض السلوك لفترة ، أو ضمن شرط ما ... وهذان هما مدخلا الشياطين في كسر العقائد العميقة وزرع الخوف والفتنة.
_ قانون تلقي الاقتراحات ومُعالجتها ، ُتقاطعاً مع قانون الاقتراحات التلقائية والمُضادة ، يشير إلى شيء واحد ، العقل الغيابي ، على نقيض الوعي ، كائنٌ زمني ، بل هو في محتواه ليس سوى مجموعة علاقات تربط بين الوعي والكائنات الزمنية الأُخرى ، ولكنه رُغم ذلك ، بنيانه الذاتي هو منظومة وجودية تتحكم بهذه العلاقات وتحتويها في مصفوفات ، ذلك ينطبق على الزمن ككل كما ينطبق على الكائن ، فيكون الزمن الكوني متصلاً بالذات عبر العقل الكوني ، وكل عالم من العالمين ، وكل كائنٍ فيها ، وكل روح سُطر ذكرها في الكتاب ، لا تتصل بروح أخرى إلا بتلاقي العقل الخاص بذاك العالم أو تلك الروح ، والعقل الخاص بالروح التي تتصل بها ، وإنه أمر تكفله المرايا المُقدسة والبَون ... وذلك بغض النظر عن المُحاكاة الزمنية الخارجية للعلاقة بينهما. إنه قانون يُظهر أن كل ما يحدث على شاشة مرايا النفس والزمن ، يتم بحسبانٍ تام ، يبدأ ن القيم وقرارات الوجدان ، وينتهي بآفاق لا حدود لها ، ومنها أُفُق الأرض المحلية. دون أن يغادر أي صغيرة ولا كبيرة {( اقرأ كِتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً )} ... إن الكتاب الزمني ، هو العلة الكافية لظهور القوة إلى الفعل ، وتجلي الحضرة وتمظهرها.

وهكذا ، عبر جميع الحالات المُختلفة لظاهرة التنويم ، تكون الاقتراحات التلقائية{11} قاعدة العطالة لهذه الظاهرة ، وأغلب الاقتراحات تكون مُضادة لما يسعى المنوم أن يحدثه في عقل النائم ... ويظهر رغم ذلك ، أن الاقتراح الأكثر قوة هو الذي يهيمن في النهاية ، وأن العقل يحسب المعطيات بدقة لامتناهية ، وليس ذلك الكيان السلبي المُستهتر الذي لطالا كان في حسابات المنومين المغناطيسيين القديمين والحديثين.

ولقد كان هذا ، واحداً من أكثر الانفصالات ظهوراً وشمولية بين العقل الذاتي الغيابي المُفارق ، والعقل الموضوعي الحضوري المتصل ... وسيكون مدار البحث الأشمل والأعم عند وصولك للشعب المتنوعة لذلك الموضوع ، وبنفس الوقت ، على الطالب والمريد أن لا يضيع الانتباه ولو للحظة على قدرته التحكم بعقله اللاشعوري عبر قوة الاقتراحات ، وعلى أي عقل غيابي آخر ، لأن العقل الحضوري ومن وراءه الذات ، بلا أي شك ، العلة الجوهرية لكافة أعمال العقل اللاشعوري ومصفوفاته وقاعدة بياناته الزمنية...​
– حافظ على العمل بالطرق الأخلاقية ، وإلا سيحيق به العقاب ، وسيحيق بعمله التباب ، وبقدرته الوفاة ، واحرص على تقديم زكاة هذا العلم ، فلا تأخذ المال على أعمالك لجمعه ترفيهاً وقد علمت أنه وهم وأنه بيد الله دون النظر للأسباب ، ولا تشتري بهذا الحُكم ثمناً قليلاً وابتغ وجه ربك الكريم خيرٌ لك ... لأن كل شيء مرده إلى العقل القيمي ، ومرد العقل القيمي إلى الله الواحد القهار.
 
التعديل الأخير:

{ الحاشية والشرح }

{1} توماس جاي هودسون :

قليلُ الكتابات ، وقد أسهمت كتبه بالتأسيس التحتاني العميقفي تكوين علم العقل العام وما لحقه عبر المعرفة التاريخية ، مثل الباراسيكولوجي وعلوم التنويم الحديثة وسائر مباحث الخوارق ، وهذا الكتاب هو الأهم بين ما كتب ، اخترت منه أربعة أو خمسة مقالات مما يمكن وصفه : تأسيساً لعلم العقل العام ، وهو دراسة للعقل كقوة النفس الحاسوبية ، من حيث تجردها عن الأعراض ، ولواحق المادة كالجهاز العصبي ، ولواحق التاريخ وما كُتب في علم النفس التجريبي والتحليلي بشكل نسقي ... يعود كل مفهوم حديث عن العقلين ( ما يسمى بالعقل الباطن والعقل اللاواعي ) إلى كتابات هذا الرجل ، ورغم ذلك ، فهذه الكتابات متقدمة كثيراً على من لحقوا به بشكل عام ، لأنه عالج العقل بشكل تجريدي واعتمد التجارب الاستبطانية والهندسية ، والبُرهان المنطقي ، والتجارب التي لا تتعلق بشروط الضباطة والبحث العلمي الوضعي ، بل بالشروط المعرفية والإدراكية. تقدم أن الفينومينولوجيا ليست علم الظاهريات بل علم المدرَكات ، والسايك هنا تعني الذهن ، أو النفس بالمعنى الأعم ، وكلمة قانون لا تشير إلى قانون عرفي قابل للزوال والتغيير ، بل إلى الناموس الذي تتقدر عليه الأمور.

{2} العقل :

كما ينص مبدَأ التآثر أن كلا طرفي التآثر يتحدان في جوهرية القوى المؤثرة ، فإن العقل قوة في النفس تتفاعل مع الكائنات العقلية ، وهي كائنات مجردة عن الوجود المحلي والنسبي ، والخيالي ، ولكنها معزولة عن عللها الشعورية والعاطفية والضميرية والوجدانية ، حتى تنكشف بقوة الوعي ...والمعقولات هي خفايا المحسوسات ، وعلاقاتها في عالم الغياب الزمني.

ولذلك كان العقل قوة من نفس نوع المعقولات ، مجرداً عن المحل الزمني ، ومرفوعاً إلى علته القيمية ، صلة الوصل بين الذات وعالم القيم "زمن الحضرة" من جهة ، وبين التجلي العقلي في الزمن لقيم وذوات أخرى ضمن العالم المرصود من جهة أُخرى ... ولا يُعرف العقل بالعقل ، بل بـ"إدراك" التعقل وهو التآثر بين العقل والمعقول ، لذلك ، لم تقم حجة دامغة على تجرد النفس الناطقة في المدارس المشائية ، لأنهم قاموا بعزل الحجة عن قوة الإدراك الواعية وهي أداة المعرفة في الفينومينولوجيا ...

العقل والوجود الزمني :

لذلك ،إن العقل الأول في الوجود هو العقل القيمي ، وليس العقل التجريدي إلا مظهراً له ، وبتفاعل العقلين تنشأ نماذج عقول بينية نسبة للشك والزيف في العقل الثاني ، والمشاعر الوجدانية في العقل الأول ، ما يمكن القول عنه بـ"عقول العواطف والتعلقات الوهمية" مُقابل عقل الجماليات والقيم ، وعقل المجردات المعزولة عن الحياة ، الميتة أو العدمية ...

فكان غذاءُ العدم ليظهر للوجود هو انفعالات العواطف الممزوجة بالمفاهيم العقلية عديمة المعنى ، وهكذا ينشأ التواضع بين الناس ، وينشأ الصراع ، وتنشأ الحرب ، وينشأ التاريخ والألم والمعاناة والتأويلات الفاسدة للإشباع السادي والماسوخي في الجنس والسلطة.

بُرهان وجود العقل :

تتم البرهنة على المستوى العقلي من الوجود ، ما يُسمى بالمعقولات ، كما في بحث مستقل سابق ، أما صفات هذا العقل : فهو رابطة بين الزمن وبين الذات ، موقعها في النفس ، لكنها ليست كل النفس ، نشأت عن دخول الذات في الزمن ، وتفاعلاتها مع جواهر الزمن ، وهذا الزمن التفاعلي هو غياب يتحصل لها معرفياً بوساطة لوح الإدراك البوني ، ثم تستخدم العقل للتفاعل مع هذا الغياب فتفهمه ، وتؤثر به بتحويل فكرة عقلية تريدها إلى وجود بالفعل بقوة الجسم ، وهي تتجلى في البروج السماوية ، وفي الأحرف والأعداد ، وعناصر الطبيعة والمعادن والأعشاب والزيوت والغذاء والخضروات والحيوانات وأنواع الأتربة والجواهر الكريمة وكل شيء من حولك هو علاقات تترك توقيعها ، يُدرك العقل هذه العلاقات وعللها ، وعلل عللها ، كما يدرك أعراضها المُلحقة بها ، كما يدرك أبعادها الوهمية والعدمية بربطها بما لا تنتمي إليه ثم الدمج بينهما في معقول واحد ، كربط الإنسان "كائن حضوري" بخمس عيون في الرأس "افتراض لعَرَض وهمي" ... فهذه وظيفة العقل وطبيعة قوته ، وهكذا يشتق الأرقام والأشكال والمفاهيم والقوانين والمنطقيات والفلسفيات والطبيعيات والسياسة والاقتصاد وكل ما تعرفه في عالم الغياب ، هو ذاكرتك عن المعقولات التي تحل فيه.

{3} زوجية العقل :

ليست مجرد دعوى دينية أو ثقافية ، بل إنها دعوى تنعكس في كتابات كل من تحدث عن النفس ، حتى في المدارس الحديثة تجد صداها ، فالسلوكيين يعترفون بوجود الباطن النفسي الذاتي المفارق للموضوع ، ويعترفون بالمشكلة النفسية والمرض والذاكرة ، وبالتالي بالتعلم الإشراطي ، ثم بالذاكرة الإشراطية ، ثم بانقسامها لذاكرة أولى قابلة للتوجيه المباشر ، وذاكرة ثانية عميقة يصعب كشفها ، تنبع منها المشاكل وتحتاج لإعادة التعليم. قس على ذلك كل المدارس النفسية ، إنهم يعترفون ضمناً بهذا ، ويتعاملون معه بشكل دائم ، لكن وقع الاختلاف النظري في تأويل وجود هذا العقل الزوجي ، ما هي بنيته ؟ ما هو قوامه الأساسي ؟ وعملياً اختلفت المدارس في طريقة التعامل مع هذه القاعدة العلمية ، ثم بتوجيه فلسفي عقائدي ، تم تأويل بعض طرق التعامل على أنها لا تعترف بهذا الاختلاف.

بل إنها دعوى انعكست في كل الروايات والأشعار ، حيث الحديث عن الصراع النفسي والرغبة واستدعاء الزمن في الذاكرة والخيال المجنح ، وفي كل أسطورة وحكاية شعبية ،فكل بطل لديه رغبة خفية عليه وعلى القارئ ، يتوجه في ترحاله نحوها من خلال البطولة ، ولديه صعوبات في فهم وتحقيق الرغبة ، تنعكس بالوحوش والأعداء ، والبلاد الغريبة ...

العقلُ والنفسُ عبر أحاديث القُرآن :

هذه الظاهرة تتجلى بالوصف العلمي الدقيق في نصوص القرآن الحكيم :

{( وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين )} {( شاهدين على أنفسهم بالكفر )} {( وفي أنفسكم أفلا تبصرون )} دلالات مُفارقة النفس لقوة الإدراك ، فتكون النفس موضوعاً لإدراك الذات ولا تكون هي الإدراك نفسه ولا هي الذات ، فإن كان كذلك فما هي النفس في القرآن ؟

{( وما أبرّئ نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي )} فتكون النفس غائبة عن حضور الذات فقد أُشير لها ب(ما) التي تستخدم في الإشارة لغير الواعي ، في لغة القرآن. وتكون منفصلة في رغائبها عن إرادة الذات - لم ترغب امرأة العزيز إرادياً بالسوء واعترفت أنّه كذلك - ، لكن النفس تضغط عليها رغم ذلك ، لأن الذات سلمت النفس شيئاً من الإرادة سمح لها بالاختيار حتى وهي غير حاضرة لرقابة الذات.

{( ونفسٍ وما سواها فألهمها فُجُورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )} وهي الآية الأكثر وضوحاً ، فلم يبقى بعدها مجال للتشكيك في مفارقة النفس للذات والوعي ، والإشارة للفجور "الفصل بين المبدأ الأنثوي والذكري بحيث تغيب القوة الذكرية للنفس وهي المسؤولة عن التركيز الشعاعي والنسق الفكري المنتظم وتبقى القوة الأنثوية وهي المسؤولة عن التركيز الموجي المتشتت والنسق الفكري الخيالي ، وهذا يؤدي إلى تبعية الإنسان للواقع الذي أمامه لأنه لا يقوى على استخدام قواه الأنثوية لكشف ما وراء الواقع المرصود ، وبنفس الوقت لا يقوى على استخدام قواه الذكرية لتحرير تلك القوى الأنثوية من قيود واقعيتها ، وهذا الفصل هو الفجور ، الذي يجعل التركيز مشتتاً والإيمان غائباً" والتقوى "المبدأ التكاملي بين ذكرية الإرادة وأنثوية الإيمان الخيال والتفكير".


لابد هنا من التوقف قليلاً لفهم هذه القضية العميقة ، النفس تتكون من قوتين متحدتين في الذات وتفترقان عند تفاعلها مع المواضيع الخارجية ، القوى من النوع الأول هي قوى الذكرية ، والتي تتكون من ثلاثة أبعاد : نواة مركزية لصدور الفعل ، ونواة مركزية لمستقر الفعل ، وشعاع ثابت يصل بين المنطلق والمستقر ، هذا الثبات العقلي في التفاعل يسمى بال"التركيز الشعاعي" وهو يعني غياب أي فكرة أو أي شيء عن الإدراك والتفاعل النفسي سوى ذلك الهدف الدقيق ، بحيث لا مجال للقوى أن تدخل على نطاق الشعاع لأنه يتجاوزها ولا يعترف بها. بالمقابل تتكون القوة الأنثوية من نواة مُطلقة لصور الفعل الزمني ، وستقر لامحدود ليصل إليه التفاعل ، وتآثر يشبه الموجة بين نواة صدور الفعل وبين انعكاسه على المستقر ... لذلك يكون التفاعل الأنثوي أشبه بالموجة الكمومية التي ليس لها محددات لصدورها وسيرها ونقطة تجسدها، بينما يكون التفاعل الذكري أشبع بالشعاع الكمومي الذي يصدر من الجسم المتجسد في نقطة معينة ليصل نحو جسم آخر له نقطة معينة ـ قاطعاً إزاحة محددة خلال فترة زمنية محددة ... إن الأنثى هي قوة التحرر المُطلق ، ولذلك ترتبط القوة الأنثوية بعالم الخيال ، بينما الذكرى هي قوة التحقق المُطلق ولذلك ترتبط القوة الذكرية بعالم الواقع المادي.

حينما تغيب الوحدة بين الواقع والخيال ، يصبح المرء عبداً لواقعه ، غير مؤمن بقدرته على التحرر منه ، حيث تتوجه قواه الأنثوية لعالم الوهم والهروب من الواقع وشتات الأفكار ، بينما تتجه قواه الذكرية لخدمة هذا الواقع وفق منطقه المادي ، بعد أن تم إقصاء البعد الأنثوي المتحرر من ارتهان المواد. إن ذلك يعني ، أن أفضل طريقة للسيطرة على الآخر هي "الفصل بين إرادته وإيمانه" من خلال تحويل إرادته لخدمة الواقع المادي والتمسك بنموذج مادي للعالم لا تقوى الإرادة على كسره لأنها لا تؤمن بهذه القوة التحررية ، وتحويل إيمانه وخياله الخلاق نحو الوهم الذي لا يرتبط بحقيقة الواقع الحضورية التي تكشف الجوهر الحي القيوم في عمقه ، وتكشف سيطرة الله عليه وقدرة الله على تغييره بالإيمان والدعاء الواثق والثابت من نفسه.

وهكذا يتم التفريق بين المرء وزوجه ... وهكذا تتم السيطرة على الشعوب ...........

كذلك وصف الله للمنافقين بخداعهم لأنفسهم ، وأنه يعلم ما في النفوس ، وأن ما في النفس يبدو أو يخفى ، وأنّ النفس تختزن المعلومات والمعارف ، وليس الذات ، وأنها غائبة عن الوعي إلا حين تنيرها الذات ، فتنير ما اختُزن فيها فيخرج من الكتمان ، ويبقى ما لم يسلط عليه نور عين الذات خافياً حتى عن الذات نفسها ، فهذه قوى النفس في القرآن الكريم : الدوافع "أمر النفس\عنصر الماء والنور" ، المعارف والمعلومات والحوسبة المنطقية "سِعة النفس\عنصر الشجرة والرياح" ، الفعاليات المنطقية "التفكير والتقدير\عنصر النار أو الخيال الخلاق" ، الانفعالات والأفعال المنعكسة "السلوك النهائي\التراب" ، كلها قد تكون متحدة مع الذات فتحدث التزكية ، وقد تكون غائبة عن الذات مقيدة لها ، وهنالك يحدث الفجور ، وتنشأ الأوهام والأخطاء والنسيان ، والرغبات الغير معقولة ،بل التي تخلو من أي ضمير ....

وكذلك كانت النفس تحاسب المرء ، وفقاً لقيم الفطرة ، ليس من الناحية النظرية فحسب ، بل من حيث الزمن الذي سيُحبس به ، ف{( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً )} فالنفس تسهم في خلق الزمن وعكس المصير على مرايا الإدراك بحسبانها ، ولعل ذلك هو العذاب الأكبر ، وكانت النفس لوامة تلقي باللوم على الإدراك رغم انفصالها عنه ، وكانت توسوس ، فهي وظائفٌ حاسوبية ، ليست فقط تخزيناً للمعلومات ، بل معالجة لها واشتقاقاً منها مع التعلم المستمر. وإن جميع الانفعالات والمشاعر الوجدانية أيضاً ، الخيفة ، الاطمئنان ، الشهوة ، الرضوان ، الاستكبار ، الزكوة كما يعلمنا القرآن ، أنها في النفس ، بما هي صلة للذات مع الوجود الزمني الخارجي ، مُفارقة لها في السلوك الزمني الحدثي.

إن السبب الحقيقي في اتفاق الجميع معنوياً على مُفارقة النفس للذات ، وعلى انقسام النفس لما تعيه الذات وما تغيّب عن وعي الذات ، لم يكن ظاهرة تاريخية محددة بإطار معين ، فكل محاولات تقويض هذه الحقيقة كما يدركها الوعي هي محاولات التحريف الاسمي ونقاش المسميات ، لكن أحداً من الناس لا يستطيع إنكارها بما هي حق انفعلت نفسه به ، أو بما هي حق يتعامل معه رغماً عنه ، لذلك ، العلة الحقيقية هي استبطان كل الذوات التي تعي ذاتها وتعي الزمن ، لصلة الوصل بين ذاتها وبين الزمن ، والتي تسمى بالنفس ... وحديثاً تغير الاسم نحو العقل الباطن ، الدماغ ، الهالة الأثيرية ، الحقل الكهرومغناطيسي ، وكلها مجرد قضايا اسمية ، تنبعث من نقاش الأعراض ، ثم عزو الجوهر النفسي للعَرَض وتعريف النفس بصفاتها العرضية ، وإهمال ذاتيتها وهويتها الحقيقية. وقد حدثتك عن برهانها في محله.

{4} الفهم :

إدراكٌ دقيق ... لعِلّة وجود هُوية الكائن الذي يتم رصده في عالم الغياب ، وهذه العلة حضورية بالضرورة ( تختبرها مباشرة ) ، لذلك لا يكون "الفهم" من منطلق التفكير وحده ، بل لا يكون إلا من منطلق الشهود وحضور القلب والنية والالتفات نحو المشكلة أو الكينونة الغائبة ، بما هي حاضرة في الآن لا بما هي غائبة هناك في زمن ما ، لأن الانتقال في المعرفة من غياب إلى غياب ، وتحليل الأشياء الغائبة إلى عناصر غائبة ، لا يُفيد علماً ، ومعرفته لا تنفع سوى ضمن عوالم الغياب ، فليس من المفيد أن أعرف أن القلم يتألف من حبر وحامل للحبر ، وبوزة يكتب من خلالها على الورق ، لأن السؤال التالي يكون عن هوية كل من تلك الأمور ، وتغدو الأسئلة بلا نهاية. ورغم أن ذلك مفيد في شؤون المعيشة بشكل عام ، ولكن هكذا معيشة تقع في الزمن المفقود ، لن تفيد الإنسان بالوصول لرضوان رغبة الحياة ، والوصول للقيمة والجمال ، وإنما بالاستمرار في العيش ضمن غياهب الزمن ، والانتقال من حال لحال لن يغير أي شيء أبداً.

{5} زوجية العقل في الفلسفة والعلوم الوضعية \ حقيقة التعريف العلمي الدقيق :

إن أغلب التعريفات لزوج العقل ، اعتمدت على الأعراض ، والتعريف بالعَرَض يختلف عن التعريف بالحقيقة التي تُمسِك نموذج المُعرَّف ضمن الزمن ، وهو حده الذاتي ، الفاصل بين ذاته وذات أي كائن زمني آخر ، وهو منتهاه الذي يصل بين وجوده الذاتي ووجوده الزمني ، ولذلك كان التعريف بالحد هو تعريف بعِلة جميع الأعراض الزمنية المرصودة للكائن.

فإنك إذ تُعرف الكوب بأنه آلة تستعمل لاحتواء السائل الذي يُراد شربه ، لم تُصب عين الكوب ، بل عين عَرَض واحد ، وظيفة محددة له ، لكن هذا ليس كل شيء ، فلو قلت بأنه ينتمي لجنس عام هو جنس الآلات ، وينفصل عنها بملاك استخدامه في الشرب ، ثم ينفصل عن ما يُستخدم في الشُرب عامة بكونه ذو سِعة محددة ، مواد تصنيع محددة ، شكل محدد فإنك تستغرق في عرض الصفات الخارجية للكوب ، ولكن ،لِما اجتمعت هذه الصفات في هذا القالب ؟ إن جوهر الكوب ، والعلة الحقيقية لمجموع الصفات ، ليس جزءً منها ... الأمر مساوٍ للمصفوفة ، التي تحتوي عناصر قد لا تنتهي ، تناظر صفات الكوب ، وإن أياً من هذه العناصر لا معنى له دون اجتماعها كلها ، وعندما تجتمع ، يمكن كشف "دالة توجيه العناصر" ضمن المصفوفة ، دالّة توحيد صفات الكوب ، ثم الحِكمة من وراء هذه الدالة ستغدو التعريف الحقيقي النهائي للمصفوفة "الكوب .... ".

ولكن الانتقال من الأعراض إلى الجوهر ، ليس بالعملية السهلة ، وليس موفقاً دائماً ، وأكثر ما يتعرض له من يتعامل بهذه الطريقة ، الدخول في متاهات المشاكل الشبحية وأوهام التعريف ، والاشتراك اللفظي والوضع الاسمي ... لأن دالة فيها الكثير من العناصر ( مثل العقل مثلاً ) ، والتي تتخذ كلاً منها تشخصات متباينة ( صفات العقل الوظيفية والبنيوية التي لا تنتهي ولا تتشابه ) ، لا تتوقع منها أن تكون دالة قابلة للاكتشاف بالاستقراء ... لذلك ، أغلب تعريفات العلوم البشرية للمواضيع حتى هذه اللحظة ، كانت مجرد هراء ، وكانت تتبدل باستمرار ، ورغم وجود الحقيقة فيها إلا أنها مغطاة بحُجُبٍ كثيفة ، مما عدّل غاية العلماء عن الحقيقة ، وصارت غاية العلم نفعية ، ثم صارت الحياة بأسرها نفعية أنانية للجنس البشري ...

ولو أخذت الكوب كموضوع للإدراك ، من حيث كلانيته ، لا عبر تحليله العقلي ثم تجميع العناصر ... ستراه كائناً زمنياً محلياً يقع في عالم الغياب ، متحداً مع خاصية واحدة فقط ، فهو بغض النظر عن كل شيء ، لا يزال قابلاً للأخذ والرد ، للامتلاء والتفريغ ،واسطة آلية بين غيابين زمنيين ، أحدهما الوجود والآخر اللاوجود. ينشأ منه فعلين في الزمن : الإيجاب لمن يسكب محتواه فيه ، والسلب لمن يستلم المحتوى منه ، فهو كائن زمني ، يتوسط بين كائنين ، في عملية التآثر بينهما ، هو الكائن المحتوي لطاقة المحبة ، وهذا السبب في محبة الإنسان للكوب وتزيينه له ، وتقديره لجمالياته ، وللذكريات التي يثيرها عن المِدفأة والكوخ وفصل الشتاء ... أما شكله يختلف حسب الذوق ، وحسب قوانين الفيزياء وكذلك لونه وكل ما يمكن وصفه به ، وحتى المواد التي يُصنع منها ، بوجود عوالم أُخرى ستوجد مواد أخرى لا علاقة لها بفيزياء وكيمياء هذا العالم بالذات. ولو بقيت تبحث ألف سنة عن الكوب بلونه وشكله وصفاته الجسمانية فقط ، لن تفلح بالوصول لتعريفه الحَدّي ، الذي يقع نِصفه في عالم الشهادة "كائن زمني" وهو الجنس ، ونصفه في عالم الغياب "واسطة المحبة" وهو الفصل. فيكون التعريف الدقيق للكوب : كينونة زمنية معطوفة على البوابة بين الأخذ والعطاء ، يمكن أن يكون ذلك متجسداً في كوب الشرب ، وفي كوب المعرفة ( الكتاب الذي تتعلم منه ) وكوب الجمال ( علاقة الأخذ والعطاء الحيوية نفسها وهي كتابك الزمني ) ...

أما جنس الكائنات الزمنية ( جنس الكوب ) ليس يمكن الإشارة إليه بكلمة واحدة ، لأنه أكثر بساطة من الكلمة ، لأنه ليس جنساً عاماً ينتمي له الكوب وغير الكوب ، وإنما هو علاقة تفاعلية بين الوجدان والزمن تتجلى في مظهر معين وتنكشف للإدراك ، لذلك يحتاج لكلمتين على الأقل لتعريفه لكلمة تصف موضعه الزمني ووظيفته فيه ، ولكلمة أخرى تجرد الأولى عن دلالاتها الزائدة ، وإذا أردتَ الإشارة للجنس الحيوي برمز وحيد ، فإنما يمكن الإشارة إليه بحرف ، الواو كذلك واسطة المحبة في الحضور والغياب ، وهذان الرمزان المتفاعلان هما الكاف والباء ، بينهما واو العطف.

{6} زوجية العقل الحقَّة :

بما هو قوة الوعي العلمية والفعالة المتآثرة مع علاقات وقيود الحياة ومِعجال الزمن ( الدائرة التي تحرك الأحداث ) ، فإن العقل ينقسم لكائنين ، الأول هو حالة تفاعُل الوعي مع الزمن ( إدراكه وتوجيهه للقيود والعلاقات الزمنية ) فلا يقع بطاويتها وينسى حقيقتها من حيث هي قيود على الذات ، مُفارِقة للإدراك. نشأت قيود معجال الزمن ، حينما كشَفَ الوعي الزمن وتآثر معه عبر روابط الأحداث التي يلتفت الوعي لها من العقل ... وحين إدراكه لحقيقتها التي تُعلّقه بالزمن.

وبالتحديد ... لحظة الالتفات نفسها هي العقل المُدرَك ( الذي يسمى بالعقل الواعي ) ، وبعبارة مختصرة : هو العقلُ المُدرَك بالوعي أثناء حضور حالة الإدراكِ نفسها ، وهو عقلٌ مُدرَكٌ بكليته ، حاضرٌ نحو الوعي دون دخول اللاشعور ، إما حضوراً مباشرة ، حين يُدرك الوعي تفاصيل هذا العقل وهي حاضرة إليه مُباشرة كموضوع فينومينولوجي ، وإما بشكل غائب ، لكنه قابل للاستذكار ... وإن ذلك يشمل كل فكرة أو ظاهرة تختبرها أو تفكر بها مباشرة ، وكل فكرة أو ظاهرة تستطيع تذكرها بسهولة ... ما تراه أمامك الآن من أجهزة وآلات وأثاث وسائر عناصر وكائنات الزمن ، وما تستطيع استذكاره مما مررت به يوماً ما ... إن منظومة الذكريات التي يستطيع الوعي استردادها في أي لحظة ، هي العقل الحضوري الأعم ، القَدَرُ الذي يحتوي التفاعلات العقلية الواعية المُمكنة الاستدعاء. هاتين الحالتين ، هما "العقلُ الحضوري \ المُدرَك ، وله اسم آخر : العقل الموضوعي ، أو ما يسمى بالواعي".

ولكنّ العقل الواعي ليس كُلّ الحكاية ... بقوة الوعي يلتفت الكائن الحي لعلاقات زمنية مُحضرة للإدراك "كالتي تأتي عبر الحواس الخمس والمحيط الفيزيائي" ، مع علاقات زمنية أُخرى غائبة عنه يستطيعُ استدعاءها متى أراد ... لكن ، قد تم تقييد الوعي بسلاسل الزمن ، لأنه بوقت ما من الماضي قد ركز على تفاصيل زمنية محددة متناسياً كلانية الظاهرة الزمنية الحاضرة لإدراكه ( كتركيزك على الشاشة ونسيانك للغرفة وتركيزك على الحدث ونسيانك لخريطة الأحداث ).

فلقدْ فَقدَ الوعي قدرته حينها على التركيز على بقية العلاقات الزمنية بنفس الآن ، وصار يتوجه إلى موضوع محلي محدود ، ثم باستمرار التركيز والتفاعل مع تلك التفاصيل ، يكون في غيبوبة عن تفاصيل أخرى ، والتي قد تَحبُك قصة زمنه المحيط به ... وشيئاً فشيئاً ... يفقد الوعي التحكم بالعقل ، ويغدو العقل في يد الزمن ، والزمن في يد البرامج والقيود التي أحاطت بالوعي والذات ... وهكذا ... ينشأ العقل الثاني "العقلُ الغيابي \ اللامُدرَك أو الذاتي" ... القول الصحيح عن الأول ، ليس العقل الواعي وليس الوعي وليس الشعور ، بل ، العقل المُدرَك كموضوع بكلانيته ، فهو مِثال العقل القيمي في عالمنا ... وحالَ الانقسامِ الذي يطرأ على العقل بكلانيته ، إلى عقل غير مُدرك وعقل مُدرك ، يكون الأول هو عقل الموضوعات الإدراكية ، عقل الحضور ، والثاني هو عقل الغياب الزمني. إنما العقل الحاضر أو الحضوري ، والعقل الغائب أو الغيابي. أما العقل بتجريده عن مُدرَكيته ، فهو لا يكون واعياً بأي شكل ، ويغدو كلانياً عقلاً باطناً غائباً.
 
التعديل الأخير:

{7} العقل الذاتي\الباطن\الغيابي والاختبار المباشر لوجوده :

كشف الإدراك لجوهر الموضوع الظاهر ، وأصل الفرق بين الإدراك والمُدركات ، بلفتِ الحضور والاختبار المُباشر للواقع وللعقل والفرق بينهما كغياب وبين حضورك كذات ، يمهد لك أن تعرف حسياً لا نظرياً ، ما الفرق بين المعقولات والمحسوسات وكيف يكون وجود المُستوى العقلي التجريدي باختبار صريح من باب الشهود ، ولقد حان الوقت لكي يتقدم البحث الاستبطاني نحو طبيعة العقل والزمن والتفاعُل بينهما.

يكمن الاختلاف الجوهري بين العقلين ، في كون أحدهما يخضع للوعي بشكل مُباشر ، والآخر يستقل عن رقابة الوعي في أعماله ، فلا تظنّ أنك نقسم لوعي ولاوعي ، أنت الوعي فقط ، ولكن علاقتك بالزمن إما تكون واعية أو غير واعية ، رغم حقيقة وواقع تأثير العقل اللاشعوري الغيابي على كينونة المرء الزمنية ، لأنه متصل مع الوعي من حيث تأثير الوعي عليه ، ومن حيث قرار الوعي بالسماح للعقل أن يؤثر بزمنه ... إن العقل كغياب ، متصلٌ مع الوعي ، ولكن فقط بوساطة الآثار النفسية والزمنية التي تمنعُ اتحاده مع الوعي أو حضور العقل الغيابي للوعي كما هو على حقيقته وحقيقة محتوياته العقلية والمعرفية.

ولذلك لا يكون كشف العقل واختباره ككيان زمني منفصل عن الوعي ، إلا لحظة التفات الوعي للعلاقة التي تربطه بالعقل ، وهذا هُو البرهان اللمي ، الذي يكشفُ جوهر الموضوع للإدراك ، ولا يكتفي بمحاكاته بأفكار وتصورات ذهنية - على عكس ما يحدث في البرهان الإنّي ، وقد ورد شرح لذلك في محاضرة أدنبرة الأولى - . هذا البرهان يبدأ من التأثير المُتبادل بين الوعي والعقل الغائب عنه : ما يسمى الاستجابات والأفعال المنعكسة\الآلية التي يرصدها الوعي في نسيجه الزمني المحيط ، دونَ أن يقررها ، سواءً التي تتعلق بمركبته الزمنية "جسده وأفكاره وعواطفه" أو بتفاعل الزمن مع مركبته "الأرض التي يمشي عليها والهواء الذي يتنفسه ..." فهذه الاستجابات القائمة بينه وبين الزمن ، والمعرفة المتحصلة عنها ، غائبة بذاتها ، وإذا حضرت تحضر من وراء حجاب البون ، وتقوم مركبتك بإدراك إستثارات الزمن وتستجيبُ لها سلوكياً دون أخذ إذن وعيك ومراقبته بشكلٍ مباشر ، تماماً كنبض القلب وهضم الطعام والتعرق والتنفس المستمر ، وهذا ما سيتم شرحه شرحاً مبسوطاً عبر فقرات هذه الحاشية.

تحدث الحوادث المرصودة لإدراكك في العالم من حولك ، مِثل الأخبار العالمية وحياة الآخرين ، وتدرك أنها آثار من قوة الآخر ، المُفارق لإرادة ذاتك المُباشَرة ولوعيك وقرارك الشعوري ، وبالتالي ، المُفارق لكشف العلة الذاتية التي أنتَجَت الأثر الفيزيائي أو الاجتماعي الذي رصدتَه ، فلا تعلَم إلا ما رصدته من أحداث ، التي تنتمي لذات أخرى غير ذاتك المدرِكة لذلك الأثر ، فمِن حيثُ المبدأ لا تقدر أن تكشِف نوايا الآخرين ، ولا مدى حيويتهم وإدراكهم بمجرد ملاحظة الآثار من حيثُ هي كذلك ... إن هذا لا يشمل الآثار الناتجة عن الأفعال المحلية فحسب ، بل إن البناء المحلي للعالم الفيزيائي الذي بينَ يديك يغدو بذاتِه آثاراً ، بكل ما حواه من مادة وتاريخ ومعارف ومجتمعات وناس وكائنات ... وهكذا فقط ، يمكن للمرء تمييز ذاته عن الآخر وكل ما سواها من أشخاص وأشياء ، وتغدو الأشخاص والأشياء جميعاً وجوداً واحداً غائباً عن الذات لا يُرى سوى أثره في إدراكها ونطاقها الزمني. والتأويل فقط ما يمكنك من التفريق بين تلك القوى والعلل والتفريق بين الأشخاص ، وبين الأشياء ، والنسبي والثابت مبدئياً كل تلك الفروق مجرّد تأويل.

هذا برهان تأثير الآخر على الوعي ، عبر التأثير على لوح الإدراك الذهني للزمن والذي يرصد وعيك من خلاله الآخر والغير ، وكما أن الأفعال التي يقوم بها الآخرون وقوى الطبيعة وترصدها ليست أفعالاً إرادية بالنسبة لحضرتك ، واستجاباتُ الآخرين والطبيعة لتلك الأفعال ليست استجابات مُدرَكة عندك ، فأنت لا تحس طعم القهوة والشاي الذي يشربُه غيرك – في الأحوال العادية – فإن هُنالِك أفعالاً أُخرى تؤَثّر على مركبتك الزمنية المنظورة والواضحة "نفسُك وجسدُك" دون أن تُحسّ أنت بتأثيرها المُباشر وتختبره ، مثل تحويل الطعام إلى طاقة وغذاء ، مثل ترميم عظامك ، الذي لا تُحسّ بإجراءاته حتى تعود العظام لصحتها .. ومثل الأفكار التلقائية والرغبات التي لا تتحكّم بها ... أيضاً هنالك أفعالٌ تُؤثّر أنت بها في نطاق محيطك الزمني دون أن تشعر ، إن بداية تلك السلوكات "المشي وقيادة السيارة والحصان والعربة ....." ، غالباً ستكون أفعالاً تحت راقبة الوعي ولو قليلاً ، وبعد مرور عدة ثواني ما يلبثُ انتباهُك لها ، أن يتشتت وتصبِحَ "حركة لا شعورية" وكذلك النَفَس ، وكذلك الإبصار أغلب الوقت ، بل إن التفكير نفسَهُ يكون لاشعورياً أغلب الوقت ، فأنت تشعُرُ فقط بالفكرة التي استثارت انتباهَك وبدات تحوسبها منطقياً وعقلياً ، لكن هذه الفكرة سُبِقَتْ بمؤثرات منطقية أخرجَتها حيز الوجود المرصود لوعيك.

ولكن اللوح المرآتي بين الإدراك وبين العقل والزمن ، بما هو ناقل للأحداث إلى الوعي ومؤثر به ، فهو متأثر بوعي الذات أيضاً وناقلُ لتأثيره ، لأن هذا الوعي قادر بقوته الروحية القيمية أن يُؤثر ويتأثر ، وكما يحضر له زمن الغياب بوساطة البون ، يحضر هو لزمن الغياب ... لأن قوة الحضور المشهودة لا تتجزأ ، هو الذي قرر حدود ما يُعرض على لوح الإدراك ، وقرر الاتصال به ، ثم قرر التأثير في تفاصيله وهو ما يظهر في جميع الأفعال الإرادية الجسدية ، وجميع الأعمال العقلية والخيالية ، فبينك وبين الزمن ، تأثير متبادل ، تآثر ، تفاعل ، لأن الزمن ، هو ذات قيمية في جوهره ولولا ذلك لما كان له وجود ولا عدم.

العقل والزمن ...

التأثر العقلي الحضوري ، قدرة الوعي أن يكشف ويوجه العقل الغيابي لحظة التركيز والانتباه ، يسمح له أن يفهم كُنه العقل ...
إنَّ كينونة العقل وجوهَرَهُ الحقيقي هو الصلة بين الذات والزمن ، أما الزمن فهو صلة العقل بالوجود ما وراء الغياب ( الحقيقة المُطلقة ). ، والانعكاس على لوح الإدراك المرآتي يُخبر عن قانون التآثر ووحدة الوجود ، فلا يغدو شيء غير قابل للتآثر مع شيء آخر من حيث المنطلق.

الطبيعة العقلية للغياب ، تعتمد على مبدأين اثنين ، غياب الشيء عن الإدراك بذاتيته ، ثم إثبات الشيء للإدراك لأن الإدراك كشف نوراً من الحضور وتوقيع المصفوفة الحيوية في الموضوع المُدرَك ... فلا يوجد الغياب إلا بالنسبة للحضور وخارج النسبة لا غياب مُمكن ، ولذلك ، يقوم العقل الغيابي عبر هذا التفاعل بين وجود الشيء الذي ليس سوى حضوره للحضرة ، وبين غياب الشيء الذي ليس سوى عدميته الوجودية ، باشتقاق كل قوانين العقل جدلياً من تفاعل النقيضين ، الزوجين ، الوجود والعدم في عالم الغياب والزمان ، ثم توجيه الأشياء عبرها ... إن الزمن يغدو مسرحاً لعرض الرواية الواحدة على الشاهد الوحيد في كوخه العتيق ، ولكن هذا الشاهد يُسهم في تأليف الرواية ، فهو مدادها وقلمها ، فهو ما يُعطيها المعنى والوجود ، من حيث إنه الحضرة التي تُنسب لها الرواية وكل أحداثها وأماكنها وأشخاصها ... فإلى أين تنتهي الرواية ؟ إلى الحق المُبين ...

تعلمُ من خلال الشهود أن وظيفة العقل بما هو صلة بالزمن من جهة ، وبك من الجهة الثانية ، هي أولاً وأخيراً أن يطلقَ الحُكم على الكائنات الزمنية باستخدامِ نموذج تأويلك لسلوكيات تلك الكائنات ... بما أنها غائبة عنك ، فهل لها وجود ، وماذا تكون ، وما هو العدم ، وماذا في أعماق الظلام ... والحكمُ يستتبع الاستنتاج التحليلي ، والتجريد التركيبي ثم ربط العناصر المجردة من جديد ، لأن الغياب دون نور الذات ، هو كل ما ليس بذات ، فهو الكثرة والقيد ، وهو الجهل والظلام ، هو الفقر ، من هنا تأتي المقولات ، ثم المعقولات ، ثم سلاسل الزمن الشَمول ،والاحتمالات التي لا تنتهي ، والحِكمة الناظمة لهذه الاحتمالات ، الذات الغائبة عن ذاتها ...، وتحاول الذات إرجاع هذه الاحتمالات إلى تلك الحِكمة ، فتنشأ الفلسفة ، وتنشأ الرياضيات والطبيعيات .... والعقل ، ليس إلا العلقة التي تربط الذات بالزمن ... والتي هي الزمن نفسه بعد أن ركبت الذات رحابه في مركبة تتناسب مع اختيارها وكانت هذه المركبة هي النفس ، وكانت قوة التعامل المُباشر مع الزمن المُجرد عن المحل ، والذي ليس إلا الوجود المُتمايز هي العقل.

البناء الكينيائي "الإدراكي-الزمني" للبُرهان والتجريب الاستبطاني الكاشف للعقل الباطن ... الأفعال المنعكسة واللاشعور :

ثم إنك تستطيع الفصل بين ظاهرتين للعقل الذي يحكُم مركبتك الفضائية الزمنية ، الأول هو العقل الموضوعي المُدرَك الحاضر ، والثاني هو العقل الغيابي الذي يقرر ما تحصل عليه ضمن فضائاتك دون اعتمادٍ على مشورتك ، فلابد أنك تُدرِك الفرق بين الفعل المنعكس الآلي\اللاشعوري ، وبين الفعل الذي تختاره بملئ إرادتك ووعيك وقصدك ، وحتى لو كان للاختيار أسباب زمنية ، فأنت من حددت رغبتك بهذه الأسباب.

وليس ذلك بعسير عليك وأنت لديك قوة الوعي ، أن تُدرك الفرق بين أفعالك المنعكسة الآلية ، وبين ما تقرره بقوة وعيك وحضورك ، وكذلك بين الأفكار التي تندفع نحو انتباهك ولا تدري من أين جاءت ، والأفكار التي تستنتجها من تلك الأفكار الأولى ، سواء كانت أحكاماً أو تصورات ... لأنك لحظة تركيزك على هذه الصفحة ، أين تكون بقية صورة الغرفة حولك بالنسبة لانتباهك وتركيزك ... لابد أنك تراها بعينك ولا تلتفت مباشرة لها ، فإذا حدث أمر طارئ ضمن إطار صورة الغرفة التفتت له ، فقد كنت تستطيع رصدها بالكامل منذ البداية وكنت فعلياً على اتصالٍ حسي بها ، دون أن تتصل بها بانتباه وعيك ، إلا أن لا تعرف معنى الانتباه أصلاً وحينها لن يفيد أي دليل ، لأن الأدلة التي لا ترجع لمقدمات وجدانية حضورية لا تحتاج للتحليل العقلي ، ليست أدلة أصلاً بل جهلاً مُركباً ، هي تقع بكاملها في عالم الغياب ولا سبيل لإقامة أي برهان عليها - وقد حاولت شرح ذلك في أبواب البون في الكتاب الأول.

إن بقية الصورة موجودة أمامك ولكنك لا تلتفت لها ، فهي واقعك في بَصَرك الفيزيائي ، لكن انتباهك غير محدد بالواقع ضرورة ، فأنت لا تشعر به ... رغم أنه مرصود من قِبلك ، وبهذا تفرق بين ما تشعر وما لا تشعر ، ليس فقط فيما ترصده ، بل في الفعل نفسه. إن الفعل في الزمن إما أن يكون شعورياً أو لايكون ، والفعل ليس الحدث نفسه ، بل هو الطاقة المتوجهة لإيجاد الحدث في نطاق إحداثي محدد ، إن الفعل هو عِلة الحدث العميقة. وإنّ كل فعلٍ من الذات هو فعلٌ شعوري ، حيث تحضر علته إليك بذاتيتها لا بأعراضها ودلالاتها ، فأنت تحس بتلك الطاقة التي وجهت ذلك الحدث للظهور ... تحس بها ، وتدركها جيداً. وكل فعلٍ من الآخر لاشعوري ، فأنت لن تشعر ماذا يفعل أهل الأرض جميعهم في لحظة نسبية ما. إنّ هذا التفريق بين فعلِ الذات المُدرَك بالاتحاد وبتفعيلك أنت للحدث نفسه ، وفعلِ الآخر المدرك بالانفصال وانفعالك لحدثٍ لم تقم باختياره ولم تشعر بالطاقة التي أوجدته ، بل فُرضَ على رصدك فرضاً ، فهذا هو بداية الكشف الدقيق عن حقيقة العقل.

ولكن الأفعال التي تصدر من جسدك وعقلك ، وما تراه من متعلقاتك الزمنية ، ليست كلها شعورية واختيارية ، بل هي كذلك فقط حال وقوع شعاع التركيز والالتفات ، وعندما تركز على شيء آخر ، لا يتوقف زمان الصيرورة في جسدك وعقلك ، فيستمر قلبك بالنبض ، ويستمر كبدك بالتقدير ، وأمعاؤك بالتحليل ، وكلاك بالتصريف ، ونَفَسُك لا ينقطع ، وفكرك لا ينقطع ، ومن حيث الوجود يبقى الجلد ممسكاً باللحم والعصب ، ويبقى العظم داعماً لاستقراره المكاني ، وتبقى ذرات جسمك وحقوله الموجية متحدة بالفضاء الذي تشغله ، وأنت لم تقرر كُلّ ذلك تمام القرار ، ولم تراقبه تمام الرقابة ، ولكنك تستطيع أن تشعر به عندما تلتفت إلى نحوه ... وهذا هو السبب ، أن تقول هنالك عقل للآخر ، وهنالك عقل يقوم بتنظيم اتصالي بالآخر ، حينما لا أكون مشرفاً ومراقباً على ذاك الاتصال ... هذا الاتصال الزمني ، حين يؤثر الآخر عليك أو تؤثر عليه أنت ، يأخذ التآثر صيغته بترجمته عبر جسدك وعقلك المنطقي ، ومخزون ذكرياتك وبقية الأشياء التي تأخذ معناها فقط من التفاعل بين الذات واللاذات ، ، ولكن هذا العقل زوج من العقلائية ، فحينما يتوافق أن انطلق شعاع الإدراك نحوه فهو موضوعي للإدراك ، ومِن حيث غاب هذا الشُعاع ، فهو عقل ذاتي غيابي ، مستقل عنك ، رغم أنه لا يزالُ يؤثر في مركبتك الفضائية وينظم عملها.

لأن العقل من حيث ذاتيته المُجرّدة عن إدراكك له وحلولك فيه ، هو عقل تام قادر على إدارة جميع العلاقات الزمنية ، لكنه معدوم الوجود بِلا إدراك ، تماماً كمُخطط الآلة وعتادها الصلب وبرامج تشغيلها وهي متناثرة عبر الفضاء ، قبل أن يقوم الإنسان بتوحيدها معاً ( بكشف الوحدة التي تجمعُها وربط الأجزاء المادية المحلية بما يصادق على تلك الوحدة المُجرّدة ) ، فهو عقلٌ سالب يستمد طاقته التي تشغّله من طاقة وعيك وأشعة نورك ، ولولا ذلك يبقى في حالة السكون والعدمية ، رغم أنه ، موجود بذاته في جوهره ، لكنه معدوم في صيرورة الزمن ، موجود بالقوة والإمكان فقط ، سواءً في عالم الفيزياء المحلية أو عالم الفيزياء المُجرّدة ... فإن تواجَدَ عقلٌ دون إدراك مُطلَقاً ، لن يتلَقّى أمرَ التشغيل الأول الذي يبني عليه سلوكه ، فلا يجوز أن تبدأ الحياة من دون الوعي ، لا في الفرد ولا النوع ، ولا الكون ، بما هو عقلٌ ينشئ المادة من تضارُب القوى التجريدية وتقييدها بعضها مع بعض في وحدة محلية ... وكذلك ، يكُون العقل من حيثُ هو آلةٌ سالباً تماماً ، للتوجيه وللطاقة الحيوية ، التي تأتيه بتركيز أشعة نور الإدراك ضمن جوانيته الغيابية المعدومة ، التي ليست سوى فضاء الاحتمالات ، ذلك يعني : ليس العدمُ هو انتهاء الوجود ، إنما انتهاء الطاقة التي تحيل الوجود إلى زمن حركي ضواء ، كما تغدو الآلة عَدَماً عندما لا يبقى من وقود ، أو لا يمكن تشغيلها ... أي أن العقل ، ليس كما يُقال عادة ، محدود المهام والوظائف ، بل هو قادر على فعل أي شيء حتى الجمع بين المتناقضات ، وحل المفارقات والألغاز الناقصة ، ولكن ذلك يعتمد على نوع الوقود الذي تمده به ، ما هي الطاقة التي تشغله ، وما هي المصفوفة التي توجه عمله ...

ومن حيث هو عقلٌ زمني ، أي حين تدرسه على نحو أنه "قوة الوعي وهي تتفاعَلُ مع الزمن" ومع العلاقات الزمنية ، فإنها ليست شيئاً موجوداً باستقلال عن الوعي والجوهر ، إنها وجوُدٌ في مرحلة السكون ، فإنه لا يشعر ولا يختار شيئاً لأنه في سُبات ، بمعنى أنه لا يعلّق الأحكام ويعالج القرارات ، بل يباشرها بشكل انعكاسي ، فلو جردته عن تحكمك به وكل ما وجهته مسبقاً له من تعليمات ، ولو للحظة واحدة ، وطلبت منه إنجاز أي شيء يمكنك تخيله ، مثل تحليل لغز النجوم ، أو تأليف رواية ما ، ثم عدت له بعد مرور هذه اللحظة الافتراضية والتي ليست شيئاً سوى حدثية توقفك عن توجيهه ، فما من شيء يمنعه أن يكون قد أتم المهمة بالكامل وبأحسن وجه ممكن ، فقد قام بذلك بشكل انعكاسي ، وليس بطريقة التسلسل المار بعتبة الوعي التي تركز على حدث واحد في كل مرة وتتعاقب الأحداث وفق ظروف تشتيت الانتباه وقيود الأحكام المُسبقة التي تأسر وعيك. لأن سرعة العدم هي الصفر المُطلق ، فهي سرعة آنية ضمن نطاق احتمالات العدم ...

ولأنك لا تعي ولا تشعر كيف تتم تلك الأفعال ، فهي بالنسبة لك أفعال آلية ، بلا إرادة وشعور ، وأفعال انعكاسية ، لأن فترة التفكير قبل اتخاذ القرار لازمة من لوازم الشعور بالفعل ، وإلا فلا حاجة للتفكير ، بل سيستغرق الأمر وقتاً يساوي وقت وصول أول سبب إلى آخر نتيجة وفق منطق الوجود الغائب ، ووفق انعدام العوامل الخارجية المؤثرة على الزمن الإحداثي هذا ، لذلك فعندما لا يكون هنالك عوامل دخيلة على خطّ التآثر ، تعيق وصول كل سبب إلى النتيجة التي تلحقه وصولاً مباشراً دون فترة ، ولا يكون هنالك من أسباب بينية تأخذ حيزاً من الوقت ، فلا معنى للفترة بين السبب والنتيجة المحليان أو الفكريان ، فمجرد وجود السبب يعكس النتيجة دون أي تأخير ، وهذا الأمر ما يمكنك أن تميز منه موضوعياً بين المفهوم البسيط للآلة والمفهوم البسيط للكائن المُدرِك.

وليس من شيء سيعيق عمل العقل الذي ينظم مركبتك ومحيطك في عالم الغياب وهو في الحالة الصفرية المُطلقة ... لأن جميع المؤثرات والمانعات لعمله ستكون منعدمة الوجود ، وبمجرد إعطاء الأمر بأي شيء سينفذه بزمن لا نسبي ، فلا أزمنة محلية أخرى تتواقت مع عمله ، وما من أحداث تقع بين كل سبب وكل نتيجة تعقبه ، بدأً من السبب الأول وانتهاءً بالنتيجة الأخيرة ... فهذه ذاتية العقل بما هو عقل زمني ، يقوم بتنظيم الأحداث وفق العلل والحكمة من وراء العلل .. وإن هذا يعني أن الزمن من حيث هو فاصل بين الأحداث والرغبات وغاياتها ، كمدة أو مسافة ، أو حدود فيزيائية ونفسية أخرى ، ليس إلا قيداً عقلياً على تفاعل الذات بما هي ذات مع الزمن.

ثم إنك لتذهب نحو العقل مرة أخرى بوعيك وتتدخل في سيرورة أعماله ، وتركز نحو أشياء محددة وتختار اختيارات تنطوي على الغفلة في وعيك ، وتحكيم العقل لإدارة العلاقات الزمنية عوض القرارات الواعية المُباشرة ، فيديرها العقل بشكل انعكاسي آلي وفق مصفوفته التي تختزنُ قراراتك ومشاعرك وطرق تعاملك القديمة مع الأحداث والمثيرات الزمنية ، فقد سلب المعلومات والأوامر من تعليماتك له ، ثم حولها لمصفوفات ذات دلالات زمنية محددة ، والتي ستخرج لك على هيئة نتائج موضوعية للإدراك في وقت محدد نسبة لبقية الدلالات التي يعمل بها ، والأزمنة التي أدخلته في تفاعلٍ معها ، فالعقل بحد ذاته لا يحدد شيئاً لأنه سكنٌ مطلق ، لكنه يصبح حاكماً على زمنك عندما تأخذك السِنة والنوم ، ووفق ما تم تعليمه إياه من قَبل.

إن معاناتك وآلامك وأحزانك ، وجميع نقاط ضعفك الافتراضية ، وجميع نقاط افتقارك للآخر ، لم تكن شيئاً ذات يوم ، لقد أخرجتها بيديك القديرتين من العدم إلى زمنك ، حينما سمحت للغفلة والنوم أن يدخلا في حياتك الزمنية ، وسمحت للعقل أن يتخذ مواقف شبحية مُبهمة ، وأحياناً غريزية معدومة الضمير والوجدان ... فهذه ليست لأنك مظلوم ولأن ناموس العالم والحياة ، أو الله يظلمك ، لا بل لأنك تختار الظُلمة ، وتكرر نفس الاختيار باستمرار غريب ، ورغم تنبيه الله لك من حين لآخر ، ورغم تحذيره من عواقب أفعالك ، لا تكف عن ذلك ولو بنيتك أو تكف دون عزم ، ومع خوف من الأوهام ، ورغبة في الأوهام ، تصارع لأجل التخلص والخلاص ولكنك تخسر باستمرار لأنك تعتمد نفس المنطق الفاسد ولا تغير ما في نفسك ...

ولكنك رُغم ذلك ، أنت ومركبتك الزمنية لا زلتما من خلق الله ، ولا زال يرسل لكما رسله ويريد لكما الخير والجمال والمحبة ، والخلاص من عبودية الوهم والظلام ....

الآلة والعقل :

الفعل المنعَكِس ، تحكُم من خلاله على شخص بأنه آلة وعلى آخر بأنه مدرِك ، ثم تستنتج من ذلك لاشعور الأول وشعور الثاني ... إلا أنها أحكام متسرعة للغاية ... فليس الانعكاس لازماً للاشعور ، بل يمكن أن يكون الشعور انعكاسياً أيضاً ، لحظة تتوقف ثرثرة العقل الثرثار ، الذي عودته على جو الضجيج خلال حياتك ، وهذا الانعكاس هو اختيار حُكم الله ، لحظة الحضور التام لوعيك تعرف الواقع الموجود في زمنك الآن - بعيداً عن التأويل للمستقبل والتفكير الافتراضي حول الزمن - عوضاً عن اختيار حكم العقل الغائب. صحيح أن الأخير يوفر لك احتمالات قد لا تنتهي ، ولكنها جميعاً احتمالات فقيرة للزمن ، خالية بذات ظهورها الزمني الأعزل من المعنى ، من الحق ، من الجمال ، إنها خيارات مُقيدة بالمنطق المحلي ، ومحيطك ، وعالمك وعصرك ، وبما يسمَحُ به العقل والمنطق ، وبما يتوافق مع اللاتناقض ، وبتأويللات وافتراضاتك وترجيحك ، وجميعها تنتمي لعوالم الغياب ، الفارغة بذاتها من أي معنىً أو قيمة ... مجرد كثرة لا معنى لها ولا جدوى منها وتحسب أنك حر بأن تختار ، مع أنك اخترت تقييد نفسك بالقدرة الزمنية على الاختيار ضمن احتمالات معجال الزمن ... إذن ، ليس الفعل المنعكس لازم اللاشعور ، إنما هو فعلٌ لم يتأثر بطاقة خارجية شبحية التوجه والدلالة تحول بين السبب والنتيجة ، فتغدو ضباباً على المرآة تمنع الانعكاس السليم ... ولكنه بنفس الوقت ، الحالة القياسية ، الحقيقية ، للعقل بما هو عقل ، وللآلة بما هي كذلك ... قبل أن يتدخل المرء ويعلق بهما زمنياً بشكل شبحي ووهمي ...

فعل العقل الغيابي المنعكس والجسد هو آلي ، أي أنه سالب ، فهو في ذاته سَكَنٌ يحتوي أبحر العدم ، وهذا العقل - عقلُك الباطن\الغيابي - في حالة غياب بالنسبة لك ولزمن حضرة الذات ، لأنك ترصُد هيأته الغائبة ، وإن لم يك في ذاته كذلك ، فأنت تعرف إذن أفعاله كمنعكسات سالبة لاشعورية تؤثر في زمن مركبتك الفضائية ، نفسك وجسدك ، عرفت ذلك خلال استبطانك لمعنى العقل الزمني ( السالب العدمي الذي يجعل للذات انعكاساً وجودياً في العوالم المُفارقة لها ) واستبطانك لتفاعلك مع ذلك العقل ( المؤثر في زمنك والمتأثر بتوجيهك ) ، وإدراكك لعلاقته بالزمن ( فهو المعكاس لقوى الزمن أثراً وتأثيراً ).

فيكونُ المَلاك الحقيقي في تمييز الفِعلِ الشعوري عن اللاشعوري : أن لا تحكُم على الآلة والآخر والغياب أنهم لا يشعرون وليس لهم روح ، لمجرد أنك قِستَ تَلازم لاشعورك بالأفعال الآلية والانعكاسية ، على الآلة نفسها ، ومَن يدري ربما هي تشعر بذلك أكثر منك ، فلا تلازم حقيقي واجب بين فورية الفعل ومباشريته وبين انعدام الشعور والجوهر الذي ينبعثُ منه الفعل من الفاعل ، لكن ما يجعَلُك تستطيع أن تَحكُم على الفعلِ اللاشعوري والوجود اللاشعوري النسبي ، هو التلازم بين فورية الفعل [ دون أن يمر الفِعلُ بإدراك الذات الشبحي ، الضبابي ، الذي يقيد رؤيتها لذلك الفعل بأغلال ومفاهيم شبحية ] وبين كونه لم يمر بزمن الإدراك إلا من حيثُ أثره على زمن الإدراك ، بمعنى ، لقد أدرَكتَ وقوع الفِعل ولم تُدرِك الفِعلَ نفسه ، فإنّك لم تشعُر به ، بل بأثره ، ولحظة الالتفات لهذا الأثر ، تُفرق بينه وبين الأثر القصدي - بالنسبةِ لك أنت - ، ذلك الأثر والتأثير الذي أردتَه وقررتَه ، وتعلم أنه رغم تأثيره عليك لم تشعر إلا بأثره النهائي ، وبأنك لا تشعر بهذا الأثر دون الغفلة عن أحداث أخرى ، وهنا لستُ أقصد التآثر بينك وبين الآخرين حول العالم ، بل أن يكون ذلك الأثرُ لاشعورياً بالنسبة لك ع أنه يقع في نطاق حقل تآثرك الزمني \ مركبتك الفضائية "الجسد والنفس" ، رغم أن هذه الأحداث تتعلق بالجسد والنفس والعقل ، أي علاقتك المباشرة بالزمن ، وليست أفعالاً قام بها الآخرين ، لكنّها لاشعورية وغير إرادية ، بل انعكاسية وموجّهة بمصفوفة غائبة المعنى عنك.

إذن هذه العلاقة ، هذه المركبة الفضائية الطوافة في بحر الوجود ، والعابرة للأزمان في عوالم الغياب ، كما تقودها أنت وكما ترصدها وترصد بها العالم ، يقودها الآخر ، الغياب ، ويرصد بها كل ما ترصده أنت ، ويدلك على ذلك ، الأحداث التي تطرأ عليها دون شعورك بها وإرادتك لها ، والتي ترصد آثارها ضمن منظومة المركبة ، ولا ترصد أسبابها ولا تقررها ، فتفهم من ذلك أنها ، بالنسبة إليك ، أحداث لاشعورية ، تماماً كأي حدث لا تشعر به في الكون ، وتفهم من ذلك ، أنها انعكاسية لا تحتاج لفترات التفكير والتردد ، تماماً كأي آلة بسيطة أو معقدة أو حاسوبية ، وتماماً كالقوانين الطبيعية التي توجه سير الآلات ... فهي كذلك بالنسبة لك ، ليس بالضرورة أن تكون كذلك في ذاتها الوجودية ، لأنها غيب ، لن تُدرِك كُنهه ... حسبُك أن تُدرِك ، أنه حتى في حال كان هنالك وعي يتحكم بها ويفرضها عليك ، فإن تأثيرها في مركبتك الزمنية ، كتداخُل للقوى الواعية في تلك العلاقة ، يجعل العلاقة تحتمل الفراغ من الشعور ، في ذاتها من ما هي به علاقة وصِلة زمنية ، لأن نفس الحدث يقع في وعيك أحياناً ولاوعيك أحياناً ، وفراغ الشعور في العلاقة يستدعي وجودَ القطبية السالبة للشعور ، والمتأثّرة به والعاكسة له ، تلك القطبية هي العقلُ الباطن ، صلاحياتُك بالنسبة له تتحدد وفقَ طبيعته الجوهرية بما هو كائنٌ زمني سالِب لقرارك وقوتك ، إنه قادرٌ على تحقيق أيّ شيءٍ بالنسبة لزمنك ، لأنّه تفاعلُك مع الزمن بحدّ ذاته ، وإنّك قادرٌ على توجيهه لكي يكونَ محكوماً بشعاع تركيزك باستمرار ، أو يكون هو المتحكم بمركبتك الفضائية ومحيطك الزمني.

فالعلاقة التي يحدث خلالها تحتمل وعيك ولا وعيك ... فضاءُ إمكانات السلوك ، وهو الوجود الزمني الممكن الذي لم يتحقق بعد ، إن الوجود الزمني هو نفسُه عقلُك الزمني ، قبلَ أن يضيأه شعاع الوعي الخاصُ بكَ أو بغيرك ويوجهه نحو سلسلة محددة من الأحداث.

"العقل الزمني" بوصفه علاقتك مع الزمن ، هي بذاتها المُدرَكة لك ، تكون طرفاً سالباً لوعي الذات ، حتى وإن كان مشحوناً بالوعي باستمرار حين وجوده الزمني الفعلي ، لكنه قائم على سلب الوعي وامتصاصه ، ولولا ذلك لما كان مِن معنى للغياب بالنسبة للوعي ، إنه قابل لدخول الوعي عليه وخروجه منه ... إنّ العقل بما هو غيابٌ مفارق للذات الواعية ، وبنفس الوقتِ يتفاعَلُ معها باستمرارٍ فينشئ الزمن الذي تتخذه الذات مركبة فضائية تتواصل بها مع العالمين ، تلك النفس والجسد وذلك المحيط حولها ،هذا التوصيف للعقل يكشِفُ لها حقيقته ككائنٍ زمني سالب في طرف التفاعُل لأنه "غائبٌ عن التفاعُل نفسه ، إلا لحظة تضيؤه الذات - أو الوعي - وتجعله يتحقق". خارجَ هذه اللحظة يكون العقلُ سكوناً زمنياً مُطلقاً ، صفراً من الأحداث تماماً. وهذه الصفرية هي حقيقة السلب ، وحقيقة اللاشعور.

سواءٌ من حيث هو حدث وفعل ، أو من حيث هو علة وسبب ، إن معنى الغياب يتحدد برؤية الوعي له ، ويحتمل الغيابُ توجيه الوعي له ، والذي يحمله على اتخاذ سلوك محدد ، فهذا يعني أنه يحسِب أفعاله حساباً انعكاسياً ، حتى ولو كان العقل اللاشعوري من جهتك ، يشعر بأحداثه من جهته ، فهو بحيثية تفاعُله معك صامت ، ساكن ، بارد ، كامن ... يرسم الحدث على ذاته بتوجيه نور الوعي كما ترسُم سقطاتُ الحجارة تراكيبَ الأمواج على المياه ... وتذكر أن الآلات في الذكاء الاصطناعي ، التي تُصمم لمحاكاة الارتياب البشري يمكنها أن تسلك سلوكاً تبدو فيه مرتابة - بتضارب دوال الاحتمالات - رغم أنها تفعل ذلك بشكل انعكاسي دون إرادة مُباشرة.

أدلة فرويد على اللاشعور بتوسط تحليل الهفوات :

في عرضه للأدلة والبراهين لوجود العقل المُفارق للإدراك الواعي المُباشر ، من حيث يقوم بكامل الوظائف العقلية المعروفة دون تدخل الإدراك المباشرة ورقابته ، قدم فرويد في مقدمة المحاضرات التمهيدية في التحليل النفسي شرحاً مُسهباً للهفوات ، يجدر الانتباه ، الهفوات ليست سلوكيات عابرة وأحداثاً اتفاقية ، لأن السلوك بوصفه معادلة الرمز والدلالة ، المُنتَجة بقوة تركيز ووعي الكائن الحي ، لا يمكن له أن يحدُث بشكل لا مصفوفي - دون دوال تستندُ لقواعد ومُقدمات محددة تعطيها تصميماً زمنياً دقيقاً يمكن الكشف عنه. فلكل سلوك مصفوفته الخاصة التي تبدأ بالمعنى المقصود من سلكه من قبل العقل ( غاية السلوك وقيمته ) ، وإن ترجمة هذا المعنى ( الغاية \ القيمة ) إلى دلالة تأويلية وهو عمل العقل بما اختزنه من معلومات وإرشادات ، ثم ينتهي بإخراج هذه الدلالة أو المصفوفة ، أو الخوارزمية ، على شكل فِعلٍ موضوعي بالنسبة للمراقب ، أو كفعلٍ ذاتي لا يرصده إلا صاحبه - حينما يغيب التفاته عن صلة من أوصاله مع الزمن تسمحُ باحتواء ذلك السلوك وتحقيقه - كسائر الأفكار وأحاديث النفس والانفعالات ، وهذا الذي يسمى بالسلوك ، الذي هو نتيجته النهائية فحسب ، هو فقط "الأثر" أو طرف الخيط للسلوك ، الذي رصدته موضوعياً دون كشف جوهره ومصفوفته.

تقع الهفوة في كلٌّ من المعنى وراء السلوك ، والرمز أو الأثر النهائي للسلوك ، وهذان يدلان على شيء واحد : خروج المصفوفة التي أدت للسلوك من حيز إدراك الوعي ، ولأنها مصفوفة لها دلالاتها العقلية ، والتي توجه السلوك الموضوعي الجسدي بها ، وحتى لو كانت دلالات عشوائية أو عبثية أو عدمية نسبياً ، فهي تبرهن المستوى اللاشعوري من العقل الفعّال.

السهو في ترميز السلوك :

في غياب الانتباه ، يتم استبدال كلمة بكلمة ، وحركة بحركة ، وحذف بعض الكلمات والحركات ، لكن دون قصد ذلك ... ولطالما سببت إزعاجاً أو إحراجاً ، وكثيراً ما كشفت عن باطن الآخر لمن يراه ، الارتباك الملاحَظ عند مصادفة شخص تحبه ، أو تخشاه ،رغم أنك لا تقصد ذلك ، هذا أثر لفعلٍ منعكِس ، ليس فعلاً واعياً. وقلب أحرف الكلمات ، والتأتأة والتلعثم ، واحمرار الوجه ، وضيق النفس لأسباب غير جسدية ، هذه كلها هفوات عارضة على المعيشة ، لكن ... هنالك هفوات أخرى تتكرر باستمرار عند اقتران المرء بنفس الأحداث ، مثل ارتجاف الشخص لمجرد رؤيته لصورة أفعى ، والصداع أثناء مرور سيارات الشرطة وضجة أصوات أجراسها ، والهلاوس الفصامية وهلاوس الصرع ، والتلمظ كلما تخيلتك تلعق نصف الليمونة الصفراء المخضرة ...حتى استثارة الأحشاء الجنسية ، ليست دائماً مرغوباً بها ولكنها تحدث بالرغم من إرادتك ، فإنك وإن وافقت على تصور المثير أو رؤيته ولكنك ما وافقت على استدعاء الإحساس بالإثارة ، سيشير ذلك إلى وجود تنظيم خفي يربط الإثارة بالاستثارة بشكل انعكاسي دون أخذ رأيك الواعي الصريح ، وهذا التنظيم "المصفوفة" هو ما لستَ تُدرِكه بعد ، ولو كنت واعياً بهذا التنظيم ، في الحالات المرضية أو السوية ، إذن لأمكنك أن تتحكم بسلوكك كيف تشاء ، ولما بقي كثير معنىً للمرض والألم والمعاناة ، ولكن التحدي الحقيقي أن تجد حلاً أو طريقة لكشف تلك العوامل الخفية ، كي تحقق إنسانيتك الكاملة.

السهو وغياب الإدراك في معنى السلوك ومصفوفته الجوهرية :

نحكي هنا عن "البنية العميقة للسلوك الرمزي" من حيث هي لا تخضعُ لرقابة الوعي واتصاله المباشر ، وعلى هذه الحقيقة تفهم سائر أسباب جنون العصر وغياب الضمير ، وانعدام الصحة لحد كبير وخروج الأمور عن السيطرة. حين ترغَبُ بشيء ولا تدري لما أنت راغبٌ فيه ، ومدمنٌ عليه ، وتطلبه باستمرار وأحياناً تذل نفسك لأجله ... تفاعلك الزمني مع ذلك الشيء ( الجنس - المخدرات - القهوة .... ) هو حدثية قابلة للرصد ، هو رمزٌ في السلوك ، ولكن وراء هذا الرمز يكمنُ اصطفافٌ عقلي دقيق ، إنها القيود الحقيقية على قواك النفسية ورغباتك وتركيزك وإدراكك ، وعلى اتصالك بالحياة وعلاقتك مع الله ، وعلى سعادتك ، وهي السبب في محدودية مصيرك وضعفك أمام الظروف.

الرّمزُ والمعنى الكوني للسلوك :
ما قد تستغربه حقاً أن يكون لسلوكك الحي أياً كان ، معنىً متجذر ليس فقط في ذاكرتك كشخص ، بل في أعمَق أعماق الكون ...

الإحساس بالخوف المتجذر بأسرارك التي لازلت تجهلها ، والتي تقع وراء كل ذكرياتك ووراء الزمن نفسه ، عندما تقرأ أحداث المُطاردة التي حصلت للهوبيت من قِبل الفرسان السود ، وعندما تسمع عواء الذئاب والكلاب في الليل ، ليست مجرد مصادفات ، وليست رموزاً ظاهرة تم اصطفافها بتعلم إشراطي وضعي وكسبي ، كلا ... إنها موجودة في فطرة الإنسان بما هو إنسان ، بل بما هو كائنٌ زمني. هي واحدة في كل البلاد والأساطير والمُعتقدات ، وهي السبب الحقيقي في البحث عن الرعب والأسرار المظلمة ، ظناً من الباحث أنها ستكشف له عند عبدة الظلام ، بينما هي أعمق من ذلك بكثير.

ليست الهفوات الرمزية دائماً متعلقة بالعالم المادي والغرائز الدنيا كالخوف والجنس ، سواءً منها العَرَضية أو التلازمية ، لماذا يبعث تصور إبريق الشاي على نار المدفأة في غرفة كوخ في الشتاء للإحساس بالأُلفة والجمال الدافئ ، وتبديد الخوف أو تشتيت الانتباه عن المُعاناة ، وكثيرً ما تُستخدم الرموز لاستحضار معاني الجمال والرقة ، أو المعاني العلاجية للعلل المرضية ولكل علة جبرٌ معنوي خاص ، في أثناء جلسة التأمل والصلواة ، وفي العلاج بالفن ، وفي فنون القتال والرهبنة والنُسك في بلاد المشرق ... وما كان عبثاً أن يكتب باشلار كتباً عن لهب الشمعة ، وشُعلة القنديل ، والماء والأحلام ... وهي جميعاً نوع من الترقي في النفس واستشعار حضرات قُدُسية سريعة المرور ، كذلك حين يقشعر الجلد من لحن موسيقي ، وحين تعشق مقاماً موسيقياً أو نمطاً ما ، كل ذلك له دلائل ومصفوفات ، لكنها ليست تنتمي لعالم المادة ولعالم العقل التجريدي الذي يربط عناصر المادة ... بل هي أسرار ، يدركها الفنان والقديس والناسك والمُريد ، ويتدرب على السعي لها والانصراف عما سواها ، ثم يطلب ما وراء اللوحة الشخص ، ألا وهي اللوحة القيمة "مصفوفة حية قيمية" وهي صلة الوصل بين رحمة الله ... وعالم الخلق.

لقد أدرك كارل يونغ هذه الحقيقة وبذلك أخرج حيز دراسة السلوك من "الأنماط التركيبية لتاريخ المريض" إلى "الأنماط الأولية للتفاعل بين الذات والزمن" واصفاً ذلك وصفاً إجرائياً دقيقاً يجعلك تستطيع فهم سلوكك وتغييره دون المرور بقبو الذاكرة ، لأن تغيير جزءٍ من تأويلك لواقعة معينة ، ليس كتغيير كلية هذا التأويل وأن تُخرِجَ الواقعة من سياقها التاريخي أصلاً إلى سياق وجودي كوني شمول.

ونفس الأسرار القُدسية تتجلى في الرهبة في أحيانٍ معينة ، وهي ما يتم البحث عنه لكن بطريقة خاطئة ، يحاول البحث عن الرهبة في ظلام الجرائم والتهريج والفوضى ، ولكن الرهبة هي نور في عُمق الظلام ، وليست نظرة عابرة للظلام يستحوذ فيها على إدراكك ، لا بل تراه بعين البصيرة المُباركة من الله. وكذلك تستحضر المعاني الجمالية السرية في الخفاء والهدوء والسكون ، وحين توقف ثرثرة العقل ... ومن يكتب الروايات ، بنية صادقة ، يحس بالإلهام ، الذي لا يأتي بالتفكير ، بل يعبر نطاق الأفق الموضوعي المقيد ، ويصل للوجدان الحي ، وهكذا تحدث المُكاشفات ، لكنها تكون أقوى وأعلى ، ولا تتشابه بين اثنان في معناها الوجداني ، ولا في رموز وملحقات هذا المعنى ... إن إدراك المعاني الوجدانية الحية والقيم دون سبق قصد ، يشير إلى تدخل قوة أعلى من قوة السياق الفكري القصدي ، وهذه القوة لها مصفوفة ، لكنها مصفوفة حية كمعانيها ، وإدراكها بالقصد والتعلم يدل على القوة الحكيمة التي وجهت دلالاتها واصطفافها بهذا الجمال والتجلي. هذا هو العقل الغيابي حين تحضُرُه الحياة ويكون علاقة حية مع الزمن الحي.


الأدلة والبراهين خارج تحليل الهفوات \ كيفَ تتكون المصفوفة العقلية اللاشعورية :

أولاً : الترابط الفكري :

إقتران مكان معين بحدث معين ، وقت محدد من السنة بمناسبة ما ، شخص ما بطبع ما ، أو بسلوك غريب ، أو طريقة لباس خاصة ... رائحة العطر التي تذكرك بأحداث بعيدة جداً ، لدرجة أنك قد نسيت تشخُّص الحدث وبقي معناه الوجداني فقط ... اقتران تصورين أو قضيتين بعلاقة مكانية أو زمانية ، أو نوع من السببية ، أو نوع من التناقض ... بحيث تستذكر إحدى القضيتين أو التصورين بمجرد تذكر الآخر ، ربما لا تثير مثل هذه الذكريات رغبات ودوافع كامنة في النفس ... وربما تتسلسل الأفكار من رائحة القهوة إلى الحرب العالمية الأولى ، هذا الترابط بين الأفكار المُختزنة في الذاكرة ، ليس إلا صفصفة المعلومات والبيانات بدلالة قوانين الربط المنطقي ، دالة العطف والتخيير والنفي ونحو تلك الأمور ، وهي تعميم لحُكم الثبوت ليشمل كل ما يقترن من حدثٍ بحدثٍ آخر ، ليتصف الاقترانُ بحكم منطقي ، حتى لو كان الحُكم ينتمي إلى مستوى الظن والشك والوهم والكذب.

تعميم علاقة الإثبات لتكون إثباتاً للنفي وللعطف وللتخير والإبدال ... هذه وظائف عقلية منطقية ، تنظم الذكريات ولكن ... الارتباطات تحدث بشكل انعكاسي لاشعوري ، متى قررت أن تربط ألمَك وخوفك بفكرة تتعرض لها دون أن تتلازم تلك الفكرة مع معاناتك ... إنك لا تريد ربط الخوف الحالي بتوقع المستقبل السيء ولا ربط التوقع والخوف بلحظتك الحالية لأنه عيش في الزمن الغائب وخروج من النور إلى ظلمات الأحلام ، لم ترغب يوماً بالتفكير في الموت والعذاب ، بينما تحتسي القهوة أو الشاي ، ولكنك تفعلها ، ولم ترغب يوماً أن يرتبط العنكبوت بقرف والتقزز والرعب ولكنك تفعلها ... أنت تريد رؤية التوقع السيء بعين البصيرة ، وليس بعين الخوف ، والبصيرة لا تخاف من الغياب وتقلبات الحكايا التي ستنتهي في ميقات يوم معلوم ، البصيرة تحل المشكلة بحضورها الآني ، أما المستقبل السيء ، فهو فكرة حاضرة الآن وليست غائبة ضمن طيات الزمن القادم ، إن استطعت إلغاء علة حدوث السوء الممكنة مستقبلاً ، من منطلق آنيتك الزمنية الحالية التي تعيشها هنا والآن ، فلسوف يكون ذلك حسناً ، وإن لم تقدر فلن يكون الخوف بديلاً نافعاً ولا حسناً.

عملية الربط بين الأفكار ، عملية ربط بين المشاعر المتلازمة مع الأفكار ... وليس الربط إلا من شؤون العقل ... وأغلب الأرباط تحدث في زمن اللاشعور ، وتسبب المبادئ العميقة للتأويلات النفسية للآخر الزمني والعلاقات القائمة بينهما ... وهكذا تتكون الرغبات والدوافع ، وسائر السلوك ...

فترابُط الأفكار يكون أولاً ب"اقتران الأحداث أو التصورات سواءً ما ترصده أو ما تفعله" بعلاقة زمنية لها دلالة ، فيتجاور الحدثان زماناً ومكاناً بشكل يسمحُ أن تتصور ارتباطهما السببي ، ويكونُ ثانياً ب"تطبيق قوانين التفكير المنطقي التي تصنف الأحداث بعلاقات احتمالية تستند للروابط المنطقية الرياضية الأساسية" على تلك الوقائع التي رصدتَ اقترانها ، وبالطبع ، يتخذى هذا الربط المنطقي على رغبتك من وراءه بغاية ما ، تجعلك تحس بنوعٍ من الرضى أو الارتياح وزوال القلق والشد ، ومع ازدياد التكرار في الاقتران وازدياد تحقيق رغبتك ، تترسّخ الروابط الفكرية لأشياء ، ربما لا علاقة بينها البتّة ... وكثيراً ما يظهرُ ذلك في الجنس والعنف ، فحقيقة الشخص الذي يستمتعُ بالسادية ، أنّه مقيد باقترانٍ بين رغبة السيطرة والتأثير وتحقيق الذات ( الذي يزيل التشنج الناتج عن الإحساس بعدم الاعتراف ) وبين الاستجابة بتعذيب الآخر ، لأنه يؤوّل بكاء الآخر وصراخه وألمه ، أو رضوخه لشروطه ، على أنه تحقق لتأثيره عليه ، وبالتالي تحقق لوجود ذاته ضمن الزمن الذي يعيشه ... وكما ترى فليس هنالك وجودٌ موضوعي - خارج رؤيته الخيالية المعزولة عن الواقع - للعلاقة الرابطة بين تحقق التأثير المؤلم للآخر ، وبين الوصول للحظة الاعتراف التي تنقُله من حيز الغياب إلى حيز الحضور وتسمحُ له بالرضى الحقيقي عن نفسه التي فقدها.

المشكلة الحقيقية ليست في كُلّ هذا بل في الترويج الإعلامي المستمر لنظرية "الدوافع الجنسية البيولوجية" وانعكاس الجنس والجريمة عن الجينات والصفات الجسدية الموروثة - مع انعدام إمكانية تغيير تلكَ الصفات على المُستوى الجزئي حد زعمهم - ، بل وربط هذا الترويج بفكرة الحرية الجنسية وحق اتخاذ القرار بالنسبة للميول ، فيتلاعبون بالمشاعر والعواطف لضحاياهم ويجندونهم في خدمة هذا الزمن الظلامي الأرضي الذي يسعون لأسر الناس به.

ثانياً : التعلم الإشراطي :

التلازم بين الحدثين يشير للعقل بالإشتراط المتبادل بينهما ، يرى العقل كلاً من الحدثين شرطاً لوقوع الآخر أو نتيجة لوقوع الآخر ، لأنه يبني عملية الربط في الغياب على مبدأ الاستنتاج الظني الذي يبدأ من الأعراض الخارجية للأحداث ثم يربط بينها برباط الاحتمال والوهم ، ويصدق هذه الاحتمالات والأوهام والظنون ... إنه نفس الترابُط الفكري لكن هذه المرة يقوم بتوجيه السلوك للشخص نحو هدفٍ معين بشرط حدوث حدثٍ معين .

هذا الإشراط يتم في العقل الغيابي دون أي أمر من الوعي والإدراك ، إنّه "عَقدٌ" بين سلوك ما وبين تأويل لهذا السلوك ، وكذلك بين ذلك السلوك وبين تأويل السلوكيات والأفكار الأخرى التي تتعلق بوقائع أُخرى - إذا لزم الأمر - ، وأخيراَ بين الرغبة وبين السلوك التأويلي الشامل الذي نتج ... لينتهي الأمر بصاحبه بربط "فكرته الشخصية" عن سعادة الحياة بربط عنقه بحبل يأخذه شخص آخر أثناء الممارسات الجنسية ... أو بتعليق ورقة ما توثق إنجازه لأمر ما أمام مجموعة من المراقبين ليحس ببعض النشوة الزائفة التي ليست موجودة في عقولهم بل في تأويله الخاص لعقولهم وما فيها.

هنالك رغم ذلك ، نوع آخر من التعلم الإشراطي ، إنه يحدث بشكل واعٍ تماماً وعن قصد ، تعلم قيادة السيارة يبدأ بتكرار بعض التفاصيل الصغيرة وينتهي بالقيادة أثناء الثرثرة أو الحوار مع الجالس بجوار السائق ... وهو كسابقه ، يختزن الارتباط في اللاشعور ، بحيث ما عدت تحتاج لاستذكاره ، بل يكفي أن توجه عقلك الزمني لإحداثه بينما أنت منشغل بأمور أخرى ... لكن الحياة بأسرها تتحول شيئاً فشيئاً إلى هذا الشكل ، وتغدو أنت ، مجرد كتلة من المهارات المتعلمة ، وتوثيقات هذه المهارات ، وتأويلك الشخصي لها ولما ستجلبه لك من خير أو شر ... تغدو أنت آلة ، غائباً عن الزمن ، وغائباً عن نفسك ... هذا هو موقع الموظف في المصفوفة التي ينشؤونها.

إن كلا النوعين من التعلم الإشراطي ، الموجه واللاموجه ، من عمل عقل الغياب ، الذي يربط الأشياء الغائبة ببعضها بمصفوفة ما ، لكن اللاموجه يحدث دون حتى قرارك الشخصي نصف الواعي ، فالعقل هو من يقرر هنا بعزلة عن ذاته وبتخويل مُسبق من قبلها.

ثالثاً : السلوك النومي التفاعلي "السمنمة" :

ظهرت السمنمة منذ ثلاثة قرون كمسألة معروفة تماماً في الأوساط العلمية ، أشخاص نائمين يتصرفون بسلوكيات معقدة ومنتظمة ، تماماً كالروبوتات ... ما من شخص لم يمر بالسمنمة بظواهرها البسيطة ، الجميع قام بتعديل وضعية نومه لجعلها أكثر راحة أثناء مروره بعوالم الأحلام ... وكل شخص حدث وأن قام بتعديل موقع وتراكب وسادته ذات يوم ، واللحاف الذي يتزمل به ، كمحاولة لتأمين التوازن الفيزيائي للجملة العصبية ، ما يبعث على الراحة وتوازن الحاثات الغددية ... هي حركات لا تنبعث من اليقظة ولا من التفكير الموضوعي، وتتشابه مع نبض عضلة القلب وعمل الحاثات والنقل العصبي الكيميائي بأنها لا شعورية ، مع اختلافها بكونها تفاعلية مع الواقع الخارجي عبر الأجهزة الإرادية التي تتصرف بسلوك ذي دلالة معقدة وليس مجرد ردود أفعال جسدية تحمل دلالة سبب واحد مقابل نتيجة واحدة ، لكن ، ليست الحالات الوحيدة للتفاعل النائم هي تلك ...

هنالك من يمشي وهو نائم ، هنالك من يتنزه في البيت ، والحديقة ، والطرقات ، دون أن يعي ما الذي يفعله ، حتى إذا ما استيقظ نسي كل الأحداث التي وقعت أثناء نومه ، وإذا كان يمشي على الدرج وهو نائم دون أن يتعثر ، سيفقد توازنه في لحظة إيقاظه تماماً وقد يسقط ، وقد حدثت كثيراً وكثيراً ... وبين المشي على المدرجات وفي الطرقات وعبر الشوارع المزدحمة أثناء النوم ، وبين من يقوم بالحركات البسيطة الهادفة لإراحة الجسد ، درجات كثيرة جداً من الأعمال والسلوكيات ، كالحديث والإجابة عن الأسئلة ، جميعها تنتمي للسمنمة "السِنَة" ... هذا السلوك لا يكثر الحديث عنه في وسائل الإعلام اليوم ، بل يتم استبعاده على قدر طاقتهم ، لأنه يكشف حقيقة الفرق بين الذكاء الآلي والذكاء الشعوري فكما ترى ، لا يمكنك التفريق بين الروبوتات والحواسيب الخارقة ممهما بلغت ، وبين المسمنم ، أي أن الذكاء والعقل ، لا يُعلّلان الاتصال بالوعي والروح والإدراك ، وزيادة تعقيد الحاسوب أو جعله معتمداً على طاقة لانهائية ، لن يحوله من حيث وظائفه إلى كينونة واعية ، تماماً كما لا يتحول المسمنم إلى كينونة واعية لمجرد أنه يمتلك قدرات خارقة.

أي حدث يقوم بإنتاجه الحاسوب ، يرتد إلى مجموعة من التراتبات في النبضات الكهربائية ، أو أي قوة فيزيائية في وضعها المحلي ، وهذه السلسلة تستنزف وقتاً زمنياً نسبياً ، لأنها تحدث في واقع نسبي كحركة سببية نسبية عبر المحليات المُشكلة لنسيج ذلك الواقع ، والمسمنمُ يمر بسلسلة المعالجة نفسها في لاشعوره ليخرج السلوك الذي ترصده ، كلاهما سلوك لا علاقة له بالذات ، ولا بالشعور والوعي والإدراك. وبعد انتهاء الدورة التفاعلية ، ينتِج الحاسوب نتاجه ، ذلك الععطى المُخرَج على وسائل العرض ، ويستلزم أيضاً وقتاً إضافياً ليصل إلى الراصد أو أداته ، وتراتبات الأحداث هذه ، لا تتعلق بالبنيان العقلي للحاسوب أو ببرنامج تشغيله وطريقة تركيبه ومواده وتعقيده ، بل ترد هذا البنيان العقلي الفيزيائي إلى كونه انعكاساً فيزيائياً للمصفوفة الزمنية التي تحكُم عالم المحليات ، يبدو ذلك الانعكاسُ لمن يراقبه ولديه عقل كأنه مستوىً عقلي يشابِه عقله ، لأنه ينتج معادلات وحصابات وإحصاءات دقيقة ، بل ويتعلّم كيفَ يفعَلُها دون حتى إشراف المبرمج ، رغم ذلك إنها انعكاساتٌ من الغياب الذي لا يستحيل حضوراً ووعياً على الإطلاق.

فبينا يبدو لك الموضوع كعملية تفكير معقدة ودقيقة ، تبدو المعالجة للحاسوب نفسه أو الروبوت كمراقب داخلي "على فرض أن استطاع إدراك ما يحدث" كأنها سلسلة عمليات تنعكس عنها سلسلة أحداث ، وهذه العمليات تتعلق بقوانين فيزيائية ومنطقية وجودية ورياضية كونية ، رُبطت معاً في مخيلة المخترع ، ثم حولها لوجود فعلي بعد أن كشف إمكانية لوجودها بالقوة في باطن الزمن الكوني المحلي ، فالحاسوب مصداق محلي لقوانين كونية ، هذه القوانين التي لا يقيدها المحل ، تنتشر في كامل الكون بحالة تزامن ، وهي حالة منعدمة ضمن نطاقات الأرصاد المحلية ...

وكما ترى ، لا تلازم بين الخوارزميات والتعلم الآلي بأي نمط كان موبين الوعي الحق الخالص ، طالما أن الآلة محلية فسيكون الزمن الناتج محلياً ، وسيكون زمن المُدخلات محلياً ، فلا يحدث التآثر المُتبادل بين قوة مُقيدة بالأغلال "الحاسوب" وبين قوة أعلى وأكثر حرية "الوعي" ، إلا من جهة تمظهر تلك القوة العليّة كقوة مقيدة "وعي مقيد باللاشعور" تتفاهم معها القوى المقيدة ، أو بكشف جوهر القوة المقيدة الذي يقوم به من هو أعلى منها "كشف حقيقة العقل بالنسبة لإدراك الوعي" ، وهذا هو السبب ، في استحالة انغلاق الزمن والكون المحلي على نفسه من حيث هو فقير بوجوده ،فهو مجرد عرض للوجود الحق سبحانه ، ولن تستطيع الموجودات أبداً من حيث محليتها أن تُدرك الكليات والأحكام والتصديقات والقضايا والتصورات ، ولا المشاعر والعواطف ، وحتى المحل لا تدركه بل تتعامل معه كمرآة آلية عاكسة لتفاعلاته ، علاقتها بالزمن إجرائية خالصة ، دونما أي حياة فيها.

هذه الحقيقة ، ومهما حدث لن تتغير أبداً ، لأنها راسخة بعمق في أقصى ما للكون من أسرار ، وقد تم التطرق لهذا الحديث سابقاً في بحث البون وبحث الإدراك.

لذلك ، لا تعود سلوكيات السمنمة لمجرد خوارزميات دماغية ، أو أحداث محلية متوافقة ، حتى لو حدث ذلك بالاتفاق بين تغيرات الدماغ أو الحاسوب وبين تغيرات السلوك ، وحتى لو كان هذا السلوك منسجِماً من حيث الرصد التخيلي لوقائعه الزمنية مع الرصد التجريبي لسلوك الدماغ والحاسوب المحلي ، فإن وراءه علة العقل الكوني ونصيب المسنم من ذلك العقل ، وفي حالة اتحاد الوعي والعقل في كينونة واحدة كما يثبت لك من حيث أنت ذات ... فأنت تتحول إلى وعي منسوج بالزمكان عبر العقل ، الذي هو خوارزميات مجردة عن محليتها ، هكذا ... تغدو عارفاً بعقلك ، شاهداً عليه ، شاهداً على نفسك والزمن ، من حيث تكوينهم الوجودي ، ليس من حيث محتواهم.

على سبيل المثال ، يذكر الأخصائي العصبي "Guy Leschziner" ، وفقاً لنقل بي بي سي ، حالة جاكي التي تعيش في الولايات المتحدة ، والتي ذهبت من بيتها على دراجتها النارية لمدة عشرين دقيقة وهي ترتدي الخوذة ولم تعلم ذلك أبداً إلا بالحوار مع المرأة المسنة التي تقطن معها ... إنها تكرر ذلك باستمرار ، دون التعرض لأي حوادث. هذه واحدة من آلاف الحالات المسجلة ولكن لا يسع ذكر الكثير هُنا.

يصف الكاتب الاسكتلندي "John campbell" في كتابه "Isis revelate" الكثير من التفاصيل والحكايا حول السمنمة ، وفي الموسوعة التي كتبها Diderot d'Alembert المجلد الثامن والثلاثين ذكرت حالة شديدة الوضوح والأهمية : كاهنٌ كنسي شاب ، كان يكتبُ الخطب التي سيعظها بالنهار ، في أثناء سمنمته الليلية ، وحين جرّب المطران وضعَ قطعة تمنع عينيه من الرؤيا استمر الكتابة بنفس الوتيرة ، ولقد كان يكتب النوتات الموسيقية أيضاً وهو نائم. زيله فان هيلونت كان ينام في نفس الغرفة مع زميل له في الكلية والذي ينهض وهو نائم ويأخذ المفتاح الخاص بالحديقة ويتجول بها ، ماراً بأماكن خطرة بالنسبة لشخص لا يركز على ما يفعله ويتحرك بعبث ، وعندما أخفى هيلمونت المفتاح في غير مكانه المُعتاد ، ونهض ذلك الشخص وهو نائم ... لم يقوم بالبحث عنه في المكان المعتاد ، بل بحث في الموقع الذي تم إخفاء المفتاح فيه ، لقد أدرك عقله السابت حقيقة إخفاء المفتاح دون أن يعرف وهو يقظ أي شيء عن هذا الموضوع ، لقد حدث اتصال فائق بين عقله وعقل المفتاح ... يصف الدكتور Dr. Sibley حالة كان يتابعها لشخص يعاني من السمنمة ، يستطيع الدراسة أثناء نومه ، وتأليف الأشعار ، وفي إحدى المرات قام بترديد الأبجدية العبرية بأصواتها الحقيقية ، وعندما استيقظ أخبر بأنه لم يسبق له يوماً أن سمع حتى أسماء تلك الحروف. وأمير توجه وهو نائم إلى سقف القلعة التي كان يعيش فيها ونحو عش غربان ليقوم بإنقاذهم ... متسلقاً بحبل بكرة نحو سقف القلعة ثمّ عائداً نحو فراشه ، ولم يسجل ذلك سوى أخوه الذي كان يعيش بنفس القلعة.

يتصف المسمنمون جميعاً بنفس الأعراض المُعقدة ، واختلاف في نوع التآثرات الداخلة في العملية ، وتفاوت في درجة التأثير :

الكتابة والدراسة في الليل ... المحاورة وإجابة الأسئلة ... التنبؤات وإعطاء البيانات عن أشياء غيابية ... القيام بمهمات معقدة ومستحيلة ، وسلوك مسالك خطرة ، غياب الخوف ، غياب التردد والتوتر والانفعالات ، ويتحول الضمير إلى المعتقدات الباطنية الأقوى حول العدالة والحق والتي توجه السلوك كما يوجه البرنامج الحاسوب.

في نهاية سرده لعددٍ من الحالات الموثقة جيداً وبعض المراجع الإضافية عن السمنمة، يذكُر البارون DUPOTET DE SENNEVOY في كتابه Introduction to the Study of Animal Magnetism الملاحظات التالية :

سيكون من السهل استنتاج وذكر العديد من الحالات الأخرى المثيرة للاهتمام والموثقة جيدًا للسير أثناء النوم الطبيعي ؛ ولكن من غير الضروري تجميع المزيد من الأدلة. من الحقائق التي تم تفصيلها بالفعل فيما سبق ، سيظهر أن القواعد التالية تصف بعض الظواهر النفسية الأكثر وضوحًا التي تعرض على سلوك المسمنمين الطبيعيين :

1. أولاً : يتحدثون بوضوح وذكاء مع أولئك الأشخاص الذين تربطهم بهم علاقة خاصة أو علاقة عاطفية.

2. ثانياً : إنهم يرون تفاعلات الأشياء الخارجية من خلال قنوات اتصال أخرى غير أعضاء الحواس الخمسة ، والتي يتم من خلالها نقل هذه الانطباعات عادة.

3. ثالثاً : إن تصوراتهم فيما يتعلق بالأشياء التي تحظى باهتمامهم في العادة تكون أكثر من حادة الدقة في أثناء السمنمة ؛ لكن ذلك متوافق مع كون أجهزة الحواس مغلقة أمام الانطباعات الأخرى للواقع الذي يرصدونه -خارج دائرة المهمة التي سينفذونها-.


4. رابعاً : يظهرون معالجة واضحة للأفكار والمعطيات ، ومعرفة مؤقتة ونشاطًا فكريًا ، يتجاوز ما يمتلكونه في حالة اليقظة العادية.


5. خامساً : إنهم ينسون عندما يستيقظون كل شيء قد يكون قد حدث أثناء نومهم السباتي ؛ لكن عند عودتهم إلى نفس الحالة ، يتذكرون كل ما حدث خلال نوباتهم السابقة.

ثمّ يعقّب شارحاً حقيقة أساسية في منهج البحث العلمي :
على الرغم من ملاحظتها ، بما هي السِّمة المميزة للسير أثناء النوم الطبيعي ، والمستخلصة من الحالات المصادق عليها جيدًا ... صحيح ، قد تكون مذهلة وخارقة ، ولكن يجب أن نتذكر أنه لا ينبغي التنصل منها لأنها تبدو غير عادية. ولا يمكن الخلاف عليها لأنه لا يمكن تفسيرها بشكل مرضٍ - بالنسبة للواقع المادي - في يوم من الأيام.

من الضروري بشكل أساسي التمييز بين الحقائق العلمية وتفسير تلك الحقائق ؛ أحدهما مسألة إثبات برهاني بحت ، والثانية هي مسألة نظرية. ومع ذلك ، يميل الأشخاص عمومًا - بل يتصورها البعض فضيلة فكرية - لإنكار وجود الحقائق التي لا يفهمونها. هذا عبث واضح.


نحن نؤمن بـ"وجودنا" ، لكن كم هو قليل فهمنا له في الواقع. نحن نتحدث بشكل علمي عن الأعضاء التي تتكون منها البنية المحققة لعمليات التوازن البيولوجي ، ومع ذلك لا يُعرف سوى القليل عن الطريقة التي يؤدي بها أي منها وظائفه. علاوة على ذلك ، فإننا نتحدث بنبرة فلسفية سامية حول "جاذبية الأجرام السماوية وقوانين الجاذبية". ومع ذلك ، إذا كان الفلكي ، في اعتزازه بالعلم ، قد ثنى عينه فقط من السماء إلى الأرض ، فسيجد نفسه غير قادر على تفسير الحقيقة البسيطة ، وهي أن قطعة واحدة من المادة الخاملة ستؤثر على قطعة أخرى. قد يلاحظ بدقة كافية الظروف التي قد تظهر في ظلها الظاهرة ، ولكن فيما تتكون الجاذبية نفسها -كقوّة مؤثرة تُنتج الأثر - لا يمكنه أن يفسر. في الحقيقة ، يعتمد المقدار الكامل للمعرفة البشرية تقريبًا على وجود حقائق واقعية دون كشف التعليل الخاص بها.

التأمل الدقيق في مِثل هذه الحقيقة ، وفق رؤية العقل الغيابي ، يشرح لماذا وكيف يتحول الإنسان لآلة تعمل بشكل ممنهج مضبوط لتحقيق مهمات غير مُجدية أو غير حقانية ... وكيف يُمكن التأثير على إرادة الإنسان بمجرد إيجاد وسيلة للتواصل مع العقل الغيابي ، والذي سيحكم قبضته على من لا يُحسن التصرف ولا يجد الهمة الكافية للاستيقاظ ، وجعله يرى - رغماً عنه - أشياء لا يراها الآخرون ، وربما لا وجود لها أصلاً سوى في العدم والظلام ، ومن الممكن أيضاً تحويل انتباهه من هذا العالم بالكامل بحيث يصبح ناظراً نحوه بعين العقل المنعزل عن القلب والوعي ... بينما يكون وعيه في مكان آخر من الوجود ، هكذا يتم الاستحواذ ... يبدأ الشيطان لُعبته بأبسط خطوة ذات تأثير كبير على وعي وضمير المرء ، والتي يكشفها بكشفه لنقطة الضعف باتصاله بذاكرة الغياب ، لأن الشيطان كائنٌ مُجرّد عن قيد المحلية ويقع في عالَم العقل والخيال ... ثم يتم تحويل نقطة الضعف إلى دالة منطقية يبحث الشيطان أو الساحر المستعين به عن مصداقها في محيط ذلك المرء ، مثل زوجة جاره ، ومن المُمكن أن يقوم المنوم المغناطيسي الذي يستخدم قوة العقل العدمي الشيطاني بسحر عيني ذلك المرء وتظنينه أنه قد واقعها وهي لم تعرف بشيء في حقيقة الأمر أصلاً ، بل ربما ، لم يكن لها وجود موضوعي ولا لزوجها ، هذا الخداع البصري يستجلب كائنات معدومة الوجود ، ذات طاقة لانهائية في إمكانات تكوينها ، لكنها مُقيدة ولا تستطيع التجسد إلا بوساطة قوة وعي المُضيف ... دون تأثير العدم والوهم على العين ، لا يحدث خداع بصري حقيقي ، وهذا الفرق بين رؤية العوالم الظلامية الكاذبة ( الحلم ) وبين رؤية لعوالم أخرى لها وجود تفاعلي وحيوي وقيم ، رغم أنها لا تتآثر مع واقعك بشعاع مُباشر لضعف واقعك وعجزه أمامه ، ومعيار العدمية والوجودية ليس إلا نور القلب وتحقيق البُرهان الاستبطاني الذي يقشع الضباب عن مرايا الإدراك ... وقوة العدم لا تكون إلا بقوة الشيطان من حيث هو غياب ، والعدم دائماً ليس له قيمة حقيقية في وجوده الذاتية ، ليس فيه الحياة ، لأنه قيد على الحياة ، ليس فيه نور ، لأنه قيد على إدراكك النور ، فالعدم هو ما يُسمى بالشر ، والظلام ، والخوف ، والتوتر ، والسادية والرغبات الزائفة والأكاذيب والخداع والضجيج والعبث والعشواء ... كلها تأتي من نفس المصدر.

العقل الباطن\الغيابي والسِحر والأمراض :

لذلك ، لا يكون هناك فصام من حدث دماغي أو عصبي كما يدعي إعلام الظلام والإيهام بالقضايا التي ليس عليها دليل سوى السُلطة المزيفة والادعاء الكاذب ، ولا يكون هنالك هلوسة لمجرد تناول حبة أو عشبة أياً كانت ... هذه الأحداث موجودة فقط من حيث هي عدم يدخل على الوعي من باب عُقدة أو إيحاء ضمن العقل الغيابي ، الذي هو أيضاً عدم ، لكنه عدمٌ قابل للنور والتظليم ... وهذه العُقدة النفسية ، من حيث وظيفتها هي عُقدة ، لكن من حيث جوهرها هي شيطان أو اتصال به ، لا يختلف عن أي شيطان يتم استدعاؤه في جلسة استحضار ما ، والمُسمنم إما أن يغيب ويدخل الشيطان لجسده وإرادته ، أو أن يغيب وعيه جزئياً في حالة سكر ، ويتغذى الشيطان على مشاعر الضحية ومُقاومته له ، لأن الشيطان كائنٌ أنثوي سالب ، ليس لديه أي طاقة ذكرية أو تكون طاقته الذكرية في حالة شتات وسلب - على عكس الكائنات النورانية التي تجمعُ بين القوتين الذكرية والأنثوية - ، وضحيته كائن أنثوي موجب ، يتقايض معه الوجود بالوهم الذي يسلبه منه ... أما الجن والإنس فليسا كائنات عدمية ولا يتحولون إلى شياطين إلا لحظة الغفلة عن حضور الله ورغبة الحق، بشكل يسمح بدخول الشيطان وعبادته رغم عدائه لوعي الضحية ومحاولته لتغييبه أو تقييده بالسلاسل ، وهو مُقنع بلانهاية للأقنعة ، لأنه أصلاً ... مُجرد قناع مخيف ومغري.

وكذلك لا يكون الفِصام والهلوسة من عُقدة عقلية ذاتية. ولا يكونون محض تداخل جيني وهرموني وبيولوجي ، هذه الأشياء لا يمكنها أن تولّد "معلومات" والعقد النفسية هي معلومات وترابطات فكرية ، فالخلية العصبية لا تُنتج المعلومات ، ولا تختزن المعلومات ، ولكنها تعكسُ "الرموز الإحداثية" التي تستدعي المعلومات ، تماماً كقرص الحاسوب ، الصور والأصوات التي فيه ليست سوى رموزٍ تسمحُ للقوى الفيزيائية المارة عبرها أن تتضارب بشكلٍ يولد صوراً تحاكي الأشياء التي في الواقع الحقيقي ، وهذا أمرٌ معروف تماماً في علم التشفير. كذلك الدي إن إيه ... ثباتُ الرمز يجعلُ القوى التي تمر عبره تنتج نتائج ثابتة نسبياً ، ولكن الوعي والمعقولات ، لا تعتمدُ أصلاً على القوى والكائنات المحلية ، والحقول الفيزيائية المحدودة ضمن نطاق زمني معين ، فمن المُستحيل أن تقول إنّ عقدة نفسية "تتعلق بمفاهيم كلية" تنتُج من ترميز معلوماتي لوقائع جزئية ، لأن الربط المنطقي شيء ، والثبوت المنطقي شيءٌ آخر تماماً ( وسبق ذكر في البون ). بل حتى عملية الربط المنطقي من حيثُ هي موضوعٌ للإدراك فلا تقع في عالم المحليات.

إن وظيفة الساحر ليست استدعاء الحقيقة أو كشف النور ، لأن عبادة النور ليست مُعادلة رياضية أو مقايضة ، فالنور غني عن أن يوجَد في الغياب ... ولكن الساحر بالعكس ، يحاول تفكيك الغياب أمام الإنسان ، ليلهيه به ، لينسى النور ، ثم يدخل عليه عبر هذا الباب ( النسيان ) بما استطاع من شياطين ليست إلا أخيلة العدم ، ولا تتفاوت سوى بقدرتها على الظهور بالبشاعة أو الزينة ، وليس بقوتها الذاتية بل بقوة سلبها للوعي.

ولطالما سمعنا عن الحَمَل الذي يقع فريسة للذئب ، لكن لماذا ؟ لأنه غفل عن القطيع ، غفل عن الراعي ، غفل عن كلب الحراسة ... وسار وحده ، من عالم الجمال إلى بلاد العجائب المزيفة ، ولأنه وحده قد زواه الذئب في وكره ... إنه الذات التي جعلت الحق أعداداً في مخيالها ، ثم انفصلت عن القيم التي لا ترغب نفسها الغافلة بها ، واتبعت الظلام الذي حل محل نور تلك القيم ، والذي قادها للشيطان ، وهو مُذيب الوعي "الذئب". الحمل ليس ضعيفاً ، والذئب ليس قوياً ، إنما الحمل غفول والذئب لعوب ... والمُشكلة الحقيقية ، تظهر في ذلك الحمل الذي أصبح يحمل الذئب على ظهره ، ولم يعد يستطيع سماع صوت الراعي وإن سمعه لا يقوى على العودة ، حتى يظهر الكبش العظيم من باطنه العميق ، ليطيح بالذئب ، فلا يعود عليه سلطان من الذئاب مرة أخرى ، وهذه غاية الله في تربية المرء. تحمل تربية الله لك ...

التنويم المغناطيسي \ التنويم الإيحائي ... والسحر :

إن الفرق الجوهري بين التنويم المغناطيسي وبين التنويم الإيحائي ، أن الثاني يقتصر على الحوار اللفظي للعقل الغيابي عبر نافذة الوعي والإدراك ، أو من خلال الرسائل الخفية ، وكما سترى فإن هذه نقطة ضعف في الاستحواذ على ذلك العقل ، كما أنها نقطة ضعف في تحليل محتواه واستخدام قدراته ، ولذلك لا يمكن للعقل الاستدلال بالتنويم الإيحائي على شيء ... إن النوم بالإيحاء ، خاصة المُسجل بآلة ، يكاد يكون بلا أي قيمة تُذكر. صحيح هو القول أن العقل الغيابي لا يفرق بين الحقيقة والكذب ، ولكنه في النهاية يخضعُ لمصفوفة دقيقة من الدوال التي تنظم معالجته للأمور من منطلقات تنتمي إلى عالم الرغبة ، وحين تفقدُ رغبتك بما تسمعه من تنويم ، أو تفقد حماسك له فتأكد أن مفعوله سينتهي على الفور. العبارات التي يتم تسجيلها على الآلات والأشرطة الصناعية ، يفهم عقلك الباطن كم هي ضعيفة وساذجة وتجارية ، هو ليس عاجزاً عن ذلك بقدرته اللامحدودة في المعالجة وبانعدام قناعتك الواعية ورغبتك الجمالية في تلك التفاهات.

لكن النوم الِغناطيسي كما يسمونه ، أو بالأحرى ، تحرير عقل الغياب نحو الإدراك وتغييب إدراك الوعي ، أو تعطيله جُزئياً والتأثير عليهما بقوة لا تمر من نافذة الوعي ، بعبارة أخرى لا يقوم المنوم بإطلاق اقتراحات لفظية عشوائية أو مقنعة بقليل من الموسيقى والتجارة ، لا ، بل يتصلُ بعقل الغياب مُباشرة وكأن حبلاً شديد القوة والتماسُك نشأ فجأة بينهما ( بعضهم يحس بذلك الحبل أو يراه ). يجعل ذلك المنومَ قادراً على توجيه بعض وظائف وعمليات عقل الغياب ، شاملة رؤية العدميات ، وإنشاء الارتباطات الفكرية والتعلم الإشراطي ، ومع أنه بالأصل ، يمكن أيضاً علاج العُقد واستخلاص المعلومات بهذه الطريقة ، فهذا غالباً لا يتم في عالمنا المُعاصر ، وتستخدم قوة التنويم الحقيقية لأغراض فاسدة وغايات قذرة ، فهو سلاح ذو حدين.

بعملية التنويم المِغناطيسي ، وتأثير الرسائل الخفية في الإعلام مثلاً ، دائماً لن يُخاطَب وعيك ، سيُخاطب عقلك بمعزلٍ عن إدراكك ، دون أن تشعر ، وحتى لو شعرت سيزول انتباهك بسرعة في أغلب الحالات الشائعة ، وسوف لن تتذكر ، إذن ، لا تخضع كينونتك الزمنية فقط لقوة انتباهك وعقلك اليقظ ، هناك أيضاً قوة العقل بحد ذاتها. هذا ما يجعل التنويم المغناطيسي في أغلبه نوعاً من السِحر العلمي ... فالسحر ليس سوى استدعاء قوة ظلامية عدمية وربطها بوعيك عبر عقل الغياب ، ليس أكثر من ذلك ، وليس وحشاً لتخاف منه ، هو يعتمد على طاقة خوفك منه وهروبك ، لأنه يمتص مشاعرك ثم يعكسها وفق دالة السحر. إن عملية الإقناع النفسي والتخويف والتزييف ، والضجيج في الصحافة ، ونشر أفكار ضمن المُسلسلات التلفازية والأفلام السينمائية ، سواء ما يسفّه نظرية المؤامرة وينكرها أو ما يهولها ويتخذها أرباباً من دون الله ، كلاهما هو السحر بعينه ، والذي يبدأ تفعيله لحظة مشاهدتك وتصديقك.

تذكر هذه الحقائق فستمر معنا كثيراً في المستقبل ...
 
التعديل الأخير:

{8} المبدأ العام لتوجيه آلة العقل : التحكم العقلي والاقتراح :

إن قوة الاقتراح الحقيقية لا تبدأ بعد دخول شخص أو موضوع ما في حالة التنويم ، لأن حالة التنويم نفسها ما كانت لتتم لولا أن تقبل العقل الباطن اقتراح المنوم له أن يحرر نفسه من رقابة الوعي ، وقبل ذلك ، تقبل الوعي بوجدانه وحضوره ، بطريقة ما ، أن يعطي عقله الغيابي القدرة على التفاعل الحر مع أوامر هذا المنوِّم ، ولا جَرَمَ أن النوم الطبيعي لا يفيد بأي وسيلة بنفس قدر ذلك النوم الموجه لتسخير عقل الغياب نحو أوامر المُنوِّم . وينطلق الوعي نحو نقطة أُخرى من الزمن ، تاركاً صلة وصلٍ بينه وبين العقل ، صلة من عند الله ، لا يُمكن التعبير عنها بالكلمات بدقة ولكنها تتعلق بالذات نفسها أكثر من تعلقها بالعقل. والسبب الحقيقي لإدخال الشخص في حالة التنويم الموجه ( غير الطبيعي ) ، يتعلق بالمهنة والأسرار أكثر منه تعلقاً بالتقنية التي يتم إجراؤها ، لإبعاد الأعين عن قوة الاقتراح الحقيقية وعلاقة الوعي بالعقل واحتكار المعرفة للنخب ، وكذلك ، لكي يتم إخفاء مُجريات الجلسة عن الذي ينام فيها ، ومن ذلك استدعاء الأرواح أو الكائنات العديمة ، أو كشف أسرار بوساطة عقل الموضوع ، وأخيراً ، كوسيلة أكثر عملية لبسط السيطرة على العقل الغيابي بأدنى قدر من المُقاومة.

{9} المبدأ العام للاتصال العقلي \ التخاطر :

هو الاتصال بين كائنين دون المرور بحواجز الزمن المحلي ، وبالتالي دون حاجة للحواس المحلية ، ويكون رؤية وسمعاً وبصراً وإحساساً وجدانياً بالجمال أو القيمة ، ويكون فكرة مباغتة ، ويكون رموزاً أو معاني أو دلالات وعلل ، ويكون جملة أو ُفرداً ... لكن الشرط الوحيد للتخاطر والقوى الحسية الفائقة ، هو أن لا تتعلق بقيود الزمن المحلي ، ولذلك لا معنى للماضي والمستقبل في زمن التخاطر ، إنه يعبر حواجز الزمن ، وكما تعلم أنه لا وجود للزمن المحلي سوى بالحواجز بين الأسباب والنتائج ... ولذلك يكون التخاطر بين عقلين غيابيين متناغمين في صفوفهما الرمزية والدلالات الموجهة ، أو بين ذات واعية أثناء حلولها في العقل الخاص بها ، وعقل آخر غيابي بوساطة العقل الغيابي للذات الأولى ، فإن التخاطر أسبق من الحدث المحلي لأنه يقعُ في التجريد ، فهو يعبُر الزمن ، فهو أسبق من سرعة الضوء المُقاسة نسبياً.

ليتمّ التخاطر بين كائن واعي وكائن آخر زمني ( عقل غيابي ) لابدّ من تحقق اتصال بين عقل ذلك الوعي وبين جهة العقلية التي يريد الاتصال بها ... طالما يكون الوعي غيرَ مؤمن بالواقع التجريدي ، وغير مؤمن بقدرته على تجاوز نطاق الأرصاد المحلي ، بل وغير راغب بذلك ، ومنشغلٍ عنه بأمور الحياة العادية فلن يقدر على تحقيق اتصالٍ عابرٍ للزمن صحيح ، ولكن هذا يحدثُ عرضياً رغم ذلك لكل إنسان ، بل لكلِّ كائنٍ حي ، في لحظة تكون نوعاً من الصفائية من أغلال التفكير ، واستيقاظٌ عميق للوجدان.

{10} المبدأ العام القائم على تحديد نطاق المعالجة العقلية للبيانات والمعطيات \ الاقتراح المُضاد :

بالمعنى المُباشر ، الاقتراح المُضاد هو قوة عقلية مُجردة موجهة لأمر محدد تعمل على تعطيل فاعلية قوة عقلية أخرى موجهة لأمر مناقض أو معاكس ، لأن دلالة القوة العقلية الأولى مناقضة أو مخالفة لدلالة الثانية ، إذ يتكون الاقتراح من ثالوث القوة والدلالة والفاعلية ، فتكون القوة هي الدافع النفسي الذي ارتبط بالوعي وأصبح إحدى عناصر الرغبات ... أما الدلالة فهي التأويلا والتخيلات والتصورات عن الكيانات الزمنية الغيابية ضمن عوالم العقل والخيال والمحل ، التي تم نسجها بقوة الدافع ، والتي تنقسم لسبع مستويات أولها نسبة موضوع الاقتراح للعلاقة بالله سبحانه وتعالى ، وثانيها نسبته للعلاقة بالذات والجمال والجلال ، وثالثها نسبته للعلاقة بالعقل القيمي ( الماء السماوي ) ، ثم العلاقة بالقلب والعطف الوجداني نحو الزمن ، ثم العلاقات مع العالم المُفارق ( عقلاً - خيالاً - جسداً )... وهي ما سُميت بعجلات الزمن السبع "الشاكرا" ، وعليها تتوزع المقامات الوجدانية والزمنية للمرء. أما فاعلية الاقتراح ترتبط بالمثير لقوته .

ينشط الاقتراح المضاد عندما يأتي المُعطى أو الاقتراح الذي يكون له ضداً. إن دلالة الاقتراح أمرٌ لا يزول عنه ، وهي بُنيانه الزمني الحق ، وغالباً ما تقع في القسم اللاشعوري من عقل الغياب ، حيث يكون الوصول إليها ، صعباً جداً بالطرق التقليدية التي تبدا من اللاشعور نفسه.

{11} مبدأ عمل العقل الآلي \ الاقتراح التِلقائي \ الأفكار التلقائية :

يصدر الاقتراح التلقائي من العقل الغيابي ، كفِعلٍ فكري انعكاسي ، يظهر في العقل الحضوري كسلوكيات منعكسة يتخذها الجسد دون تردد وتفكير ، أو كأفكار مباغتة يصعب معرفة أسبابها الحقيقية ، تُدعى بالأفكار التلقائية ، وعملية انبعاثها إلى رصد الوعي تُدعى بالتداعي الحُر. الاختيار القائم على الاحتمالات بالنسبة للراصد ، ليس اختياراً محايداً بحقيقته لأن القواعد المستخدمة في تحديد نسب الترجيح تعتمد على الدلالات اللاشعورية بالنسبة لذاتية العقل ...

ما هي الأفكار التلقائية ...

واقعة معروفة للإنسان ويعاني منها باستمرار ، هي تلك الأفكار التي تطرأ على باله فجأة مع شحنة في العاطفة تأسره بين قوسي الفكرة ، فيصبح من الصعب عليه الخروج عن السلوك الذي تسمحُ به الأفكار التلقائية ، دائماً ما يكون لدى المرء الذي افترق عن زوجه النفسي ، أفكار تلقائية تسبب سلوكه ، فعندما يرغب في الصباح الباكر بالتنزه ، ويحس فجأة أن رغبته قد تلاشت ، فما ذلك إلا بسبب بعض الأفكار المعطلة التي راودته ، مثل : الجو بارد جداً – ربما أتأخر عن أعمالي – جارنا المزعج سيخرج بعد قليل .... ولكنه لا يكون في أغلب الأحوال منتبهاً جيداً لها ، وعليه التدرب ليصبح واعياً بكل ما يدور في ذهنه لينتقل إلى مستويات أعمق من اللاوعي. ولكنّه لا ينتبه يوماً : من أين صدرت هذه الأفكار ؟ بالطبع إنها صدرت من العقل ، وهذا ليس جواباً كافياً ... إنه كالقول أنّ القمر في السماء ، قولٌ شبحي لا يحكي الكثير ولا يخبر بأي شيء ذو فائدة ، حين لا تعرف ما الذي تعنيه حقاً هذه الكلمات.

بما أن العقل يعمَلُ على الاستنتاج والقياس المنطقي ، لمعطيات واقتراحات تم توجيهه إليها مُسبقاً عبر الذات وعبر الآخرين ، فمن العلمي وصفُ تلك الأفكار التي تستطيعُ رصدها بأنها نتائجُ لأفكارٍ أخرى أكثر عمقاً وكلية ، فهمُ ذلك بالطريقة التجريبية يستدعي أدوات معينة تستخدمها إدراكياً ، فحين تردُ على ذهنك فكرة ما تتعلق بسلوك عليك اتخاذه ، أو بموقفك تجاه شيء معين رأيته ، فلا تتوقف على عتبة الفكرة التي أتتك ، بل قم بردها إلى عواملها الأولية ، أجبر الفكرة أن تعود لرصدك كما لو كُنتَ تراها للمرة الأولى ... مع كافة التخيلات المُمكنة والمراقبة الهادئة الصامتة ، دون أن تتبعثر عنها بأفكارٍ أخرى لا علاقة لها بها ، ثمّ اسأل نفسك : ما الذي تعنيه هذه القضية أو هذا الحُكم بالنسبة لي ؟ لماذا علي أن أفعل هذا السلوك ؟ ماذا سيحدُث إن أنا لم أفعله ؟ ماذا سيحدُث لو كان موقفي خاطئاً ؟ على أي الأسس أستندُ في اتخاذ حكم على ذلك الشخص ؟ لماذا علي أن أكترثَ بهذا الموضوع أصلاً ...

ما تقوم به فعلياً هو أنّك "تَخرُج من الزمن الوهمي" الذي أسرَتكَ فيه الفكرة التلقائية ، وتعيدها معك إلى الزمن الحقيقي "هُنا والآن" ومقاييس هذا الزمن ، هذه الطريقة كانت جوهر العلاج المعرفي ، عادة يستخدمون تقنيات تخيلية ومحاكاة للظروف التي تنشأ فيها الأفكار بالأحوال العادية ، عادة ما يستخدمون الدفاتر والجداول البسيطة ، والمذكرات لتدريب المريض على مراقبة أفكاره بعناية قدر الإمكان ، ليكتشف المريض في النهاية أنه كان "روبوتاً مخلصاً في عمله" وهذا كان سبب مرضه الحقيقي ، لقد كان الحضور غائباً تماماً عنه ، وكان منشغلاً طوال الوقت بالتفكير بالأوهام ، انظر هذا الجدول لتتبين الأمر أكثر :

جدول سجل الأفكار التلقائية وتقويمها
تاريخ الموقف ووقتهالموقفالأفكار التلقائية أثناء الموقفالمشاعر والانفعالاتالاستجابة الصحيحة أو التكيفية (مرحلة التقويم)النتيجة
هذا الجدول سيجعلُك تتفهمُ كيف يتخذ الإنسان سلوكاً معيناً أو موقفاً محدداً يظنّ أنه يدرك تماماً معناه ، وأنه قد قرره بملئ إرادته - بينما يكون أشبه بالروبوت الذي يستهلك وقوده لخدمة التفكير التلقائي المبرمج عليه مسبقاً.
الأفكار التلقائية تخدعك ، إنك فعلاً تكون حراً ومُدركاً باختيارك ، ولكن فقط ضمن النطاق الذي تسمحُ لك الفكرة التلقائية أن تراه ، فهي تحصُر تركيزك نحو نموذج تأويلي محدد للموقف الذي أمامك ، لا تستطيعُ الخروج عنه عادة.
تكتب هنا الموقف الذي حدث معك والمحيط الذي حدث فيه ، سواءً كان ذهنياً أم خارجياً ، وما الاستجابات الفيزيولوجية المتعلقة به (تنميل – توتر – تسرع نبض – استرخاء)ما هي الأفكار أو الأخيلة التي دارت بذهنك كرد فعلي فكري على الموقف وكم شدتها (سيتم شرح الأسئلة التي ستكشف بها تلك الأفكار)ما هي المشاعر المرافقة لتلك الأفكار (الحزن – القلق – الغضب – السعادة) وكم شدتها (ضعيفة أو متوسطة أو قوية أو النسبة المئوية)ستقوم هنا بوضع إجابات على بعض الأسئلة التي ستطرحها على نفسك بخصوص الموقف - هذه الإجابات محاولة لرؤية حقيقة الفكرة من عين الإدراك قدر المُستطاعكيف تعتقد الآن بالفكرة التلقائية تلك – ما المشاعر التي تحسها الآن – ما شدة هذه المشاعر – ما الذي سوف تفعله ...





مثال : السبت 7/7 العصر



رؤية لوحة عن المنارة في المتحف القريب من منطقة سكني – التفكير في أنني كم أرغب بالرسم للتواصل مع ما يتراءى لي وجدانياً




أنا أضعف من تحمل مسؤولية الموازنة بين تعلم الرسم وبقية شؤون الحياتية





الحزن والتأسف – شديد

هذا الاعتقاد قد لا يكون حقيقياً، أنا في الحقيقة لم أجرب لأعرف–الرسم سيطورني على مختلف الأصعدة ويستحق بعض الإصرار–لدي وقت فراغ كثير- الاستجابة الصحيحة لرغبتي هي المحاولة والاهتمام وعدم تقبل هذه الفكرة كمسلمة وإن فشلت الآن سأنجح فيما بعد
الله وكيلي فهو يحب لي الخير والجمال
أعتقد بكل ذلك بشدة



الآن لا أظنني لازالت أعتقد بالفكرة المعطلة – مشاعري الآن هي الأمل ، الحزن لا زال موجوداً بشكل ضعيف ، الراحة أكثر من السابق بمراحل

ثلاث ملاحظات عن الأفكار التلقائية :
1. كيف تكتشفها :
الحقيقة أنك لا تحتاجُ للالتزام بجدول دقيق للوصول إلى مثلِ هذا الوصف ، ولكنّه نوعٌ من التسامح مع منطق العقل الذي لا يسمحُ له بالتصرف بعفوية فطرية تامة ودون تقنيات محددة ، هذه الآلية ، لا يجب أن تستمر لوقتٍ طويل فبعد فترة من الزمن لابد أن تصبح متآلفاً مع حقيقة الأفكار التلقائية كنوعٍ من الاقتراحات القادمة من اللاشعور ، تحتَ تأثير ظروفٍ محددة ، وأن تغيير الأفكار التلقائية ( وبالتالي تغيير أي سلوكٍ مرضي ، أو أي سلوك نفسي أو حتى زمنياً ) يبدأ ن الصمت والحضور ، وردّ الأفكار إلى حقيقتها هنا والآن ، وما الذي تعنيه بالنسبة لك فعلاً.

اكتشاف الأفكار التلقائية :​

لاكتشاف الأفكار التلقائية التي تدور أثناء الموقف يجب أن تكون أسئلتك موجهة ودقيقة. اسأل نفسك : ما الذي كان يدور في ذهني حينئذ ؟ لاحظ المواقف الأكثر إثارة للمشاعر ، استخدم خيالك لوصف موقف أو وقت معين كما لو كان الآن ، ثم اسأل السؤال ... كن في مكان هادئ ومريح عندما تقوم بالاستذكار ، يمكنك أيضاً تمثيل الدور وتخيل الظروف عوضاً عن الغرفة.

الأسئلة التي ستساعدك على الوصول للفكرة التلقائية هي : ما الذي تظن أنك كنت تفكر به ؟ ما الذي ستفكر به لو أن هذا الموقف يحصل حالياً ؟ هل تعتقد أنك كنت تفكر في .... أو .... ؟ هل يذكرك الموقف بشيء قد حدث من قبل ؟ هل يجعلك الموقف تتوقع حدوث شيء ما ؟ ما الذي يوضحه هذا الموقف عن شخصيتك وذاتك ( ما الذي يخبره عنك ؟

اكتشاف المعتقدات الوسطية والعميقة :​

السؤال حول ماذا تعني هذه الفكرة ؟ ما الانطباع أو المفهوم الذي تعطيه لك عن الله والحياة ، وعن ذاتك ، وعن الصواب ، وعن بقية الأنماط الأولية ؟ يكمن التركيز على واحد أو أكثر من ذلك كله حسب الحاجة. اسأل جيداً نفسك أولاً عن معنى هذه الفكرة بالنسبة إليك حسب الموقف ، واسأل نفسك عن معنى ذلك المعنى ( أي المعنى وراء الفكرة التي ترتبط بالفكرة التلقائية وتسببها ، وذلك للوصول إلى فكرة أعمق منهما ) كرر ذلك مع عدة مواقف مختلفة ارتبط كل منها بفكرة تلقائية تسبب نفس السلوك أو الاستجابة ، وذلك للوصول إلى المعتقدات الوسطية التي تحكمها ( وهي المعتقدات القابعة مباشرة وراء تلك الأفكار ) ومن ثم المعتقدات العميقة ، تلك التي تحكم المعتقدات الوسطية ( وهي غالباً ما تتعلق بالأنماط الأولية وكليات الحياة ) ، وهذا سيجعلك تستطيع بسهولة تقييم فكرتك التلقائية وكذلك تقويم المعتقدات المحركة لها.



النموذج المعرفي وتأويلك للعالَم ولنفسك
التحقيق بمثال محدد أو مشكلة معينة

اكتب ثلاث مواقف حدثت لك تسبب المشكلةمثال 1 : نظرت تلك الفتاة في عيني في الحافلةتلك السيارة المُعتمة وقفت فجأةسلط علي الضوء بمكان شديد الازدحام
اكتب الأفكار التلقائية الناتجة عنهاربما ستقوم باكتشاف ضعفيربما سيظهر منها عصابةربما سأتعرض لموقف محرج على الملأ
ماذا سينتج عن ذلك
سوف تنظر إلي بازدراءسوف يقومون بالتجبر عليسوف أكون مثيراً للشفقة
ما الذي يعنيه ذلك ؟ كيف ترى نفسك والعالم وفقاً لهذا التأويل ؟العالم مكان خطر – لا مجال للضعفاء – لابد من الحذر – المجتمع مصدر إحراج – الآخرون مصدر ارتياب – سلطة المتحدث على نفسه وحياته ضعيفة – قدرته على التغيير مقيدة بالظروف – المنطق المادي يحكم العالم والبقاء للاحتمال الأكثر توافقاً معه ( المعنى الحقيقي الذي يُقصد من البقاء للأصلح ).
ما هي المشاعر المرتبطة بتلك الأفكار ؟القلق – الكبت – الضيق – الحزن - اليأسالخوف – التوتر – الغضب – الانكماش
نتائج فيزيولوجية قريبةاضطراب دقات القلب – التعرق – الإمساك – الغثيان .....تناول الطعام بشكل تفريغي انفعالي – سائر الأنشطة بحالة غياب عن الوعي وانفعال واضطراب
نتائج فيزيولوجية بعيدةمع تكرار الموقف نفسه بنفس التأويل والاستجابات ، يبدأ الإحساس بالصداع والشقيقة وارتفاع ضغط الدم ، يتحول ارتفاع الضغط والإمساك إلى عادة ، ويتحول النمط المعيشي السريع إلى القاعدة التي توجه التفاعلات الزمنية ، وهي جميعاً استجاباتٌ جسدية ونفسية للمثيرات الواقعية بشكل يقدره النموذج المعرفي التأويلي للمريض ،وقد تم اختزانها عبر التكرار ، في ذاكرة العقل الموجه للجسد وتحويلها عبر وساطة الدماغ لإشارات كهروعصبية ذات تنميط وترميز محدد يقترن بنفس الأحداث والأحاسيس ، وكما تعلم ، جميع فيزيولوجيا الجسم تخضع للتحكم بالإشارات الكهروعصبية بطريقة أو بأخرى ، وهكذا تنشأ الأمراض الجسدية.
المعايير ( اقتراحات – قواعد ) التي تستخدمها للتعامل مع الواقع بشكل يحقق رؤية التأويل الذي تعرفه عبر الأفكار التلقائية. وهي الطريقة التي تحدد من خلالها أبعاد استجابتك لموقف ما قبل أن يأخذ السلوك شكله الأخير ، كيف تقوم بالتعايش مع الأفكار ضمن محيطك الزمني ؟ ما الاقتراحات التي قدمتها لنفسك كي تتعايش معه ؟إيجابي : إذا استطعت أن أخفي ضعفي سأكون بأمان
إذا استطعت أن أنشغل عن ضعفي سأرتاح
سلبي : أنا لا أستطيع إخفاء ضعفي ولذلك أنا بخطر
الخطط السلوكية التعويضية ( معتقدات أخرى تتعلّق بالفعل المباشر الذي ستتخذه ) وهي مفهومك للاستجابة المناسبة لموقف معين
ما السلوك الذي سيحقق لك الاقتراحات السابقة مما يجعلك تتكيف مع معتقداتك ؟
سأقوم بإخفاء ملامح شخصيتي الحقيقية
سأقوم بالتخفي عن الآخرين لكي لا يتفحصوني
سأتجنب طلب المساعدة لكي لا تنكشف حاجتي
المعتقدات الجوهرية ( التي يكوِّن عقلك من خلالها المعايير والأفكار التلقائية ) ... وهنا تكمنُ العقدة الحقيقية التي عبرها تأتي سائر المشاكل التي تعانيهامثال : أنا ضعيف – الحياة لا تعطي فرصة للضعفاء – ليس هناك سبيل للقوة – أنا عرضة للازدراء
بالطبع ، تستندُ أفكارك في إثبات نفسها على تاريخك الطفولي وما بعد الطفولة ، مثلاً يمكن بالإرجاع لموقف معين اجتذب فكرة تلقائية ما ، أن يكشف لك تعلق تلك الفكرة المنعكسة على إدراكك مباشرة ( الحافلة مكان خطير ) لمجرد رؤية الموقف ( الحافلة في مكان مظلم ) عن حدثٍ قديم تعرضت له في حافلة حين كنتَ صغيراً كالاغتصاب أو الاعتداء أو رؤية جريمة دموية ما. ولكن ، أياً كانت الارتباطات التاريخية مع فكرتك وموقفك ، فإنها لا تعني لك شيئاً الآن وفي هذه اللحظة ، إلا بقدر ما تسمَحُ للعقل وأفكاره التلقائية أن توجه سلوكك وتتحكم باستجابتك ، عوضاً عن توجيهها أنت لما تريد ، وتغيير الذي تريده. وترك ما لا يناسبك.
المُعتقد الجوهري أعمق من مجرد واقعة تاريخية ، إن الواقعة هي مجرد مقدمة تجريبية قام عقلك بتأويلها بشكل معين ليكون قاعدة محددة لسلوكه. وقام بتعميم نتائجها على سائر الحياة ، ذلك التأويل المعمم هو السبب الحقيقي في الأفكار التلقائية والسلوك المريض أو أي مشكلة أخرى

كما ترى ، هناك مصفوفة دقيقة وهندسة عقلية للأحداث ، هي التي تجعلُك تتخذ موقفاً أو سلوكاً مُعيناً ، وكذلك الآخرون ، وجميع التجارب التي أجريت في علم النفس المعرفي والعلاج المعرفي تؤكد هذه الحقيقة التي لا خلاف عليها لا بين العقلاء ولا بين العلماء ، وإنما وقعَ الخلاف في طبيعة تلك الأفكار ، وطبيعة ارتباطها بالمعتقدات ، وآليات تكوين المعتقدات ، وإلى أي حد تتحكم الأعصاب والنواقل الكهروعصبية بذلك أو تؤثر عليه ، وإلى أي حد تتحكم الجينات بتلك الأعصاب التي من الممكن أن تؤثر هكذا تأثير ، وإلى أي حد ... يمكن تغيير السلوك.

2. كيف تغير التفكير والسلوك :

أيضاً لا ينبغي أن تستعجل وتفهم من الجدول أنه عليك "التفكير التلقائي بالأفكار التلقائية" ومحاكمة تلك الأفكار بالمنطق والاستنتاجات والتقييم العقلاني ، هذه الطريقة للتسهيل - تماماً ككل الميكانيزمات العلاجية، والعلاج المعرفي قائمٌ أساساً على أصول إجرائية أكثر منها أصول إدراكية وحقيقية ، لأنه لا يتم ترخيص العلاج أكاديمياً وبحثياً إذا تم الحديث عن مصطلحات ومعاني مثل "الروح والصحوة واليقظة وقوة الآن". وللتحايل على هذا الأمر يلجأ العديد من المؤسسين إلى ربط العلاج بتقنيات وتعقيدات إجرائية لا داعي لها أو لها داعي قليل ، فافهم الجوهر واترك المظهر لأهله.

كل ما عليك فعله أن ترى السلوك والفكرة التلقائية التي أدت إليه بعينٍ من الحضور قدرَ الإمكان ، في البداية سيكون ذلك صعباً جداً عليك ، ولذلك ستحتاج للجداول والمذكرات والتأملات ، كي يسترخي عقلك ويقتنع بما تريده ويرتاح نظامك العصبي والهرموني من الشد المستمر. ولكن ومع مرور الوقت ، تكون الطبيعة التي أتيت منها هي مصدرَك للتعرف على نفسك وعلى العالَم ، وبكل عفوية ترى الأمور على حقيقتها ، ولا تعود بحاجة لكره الآخرين والحكم عليهم وفقاً لسلوكهم الظاهر أو حتى معتقداتهم التي لا يتحكمون بها ، وقبل أن تمر بالنموذج التأويلي من أوله لآخره ، فإنك لن تحتاجَ أكثر من لحظة هدوء واحدة ... لتشفي ذاتك.

3. العلاقة بين الأفكار التلقائية والاقتراحات التلقائية في عالم المغناطيسية الحيوية :
أما أثناء التنويم نفسه أو بمعزل عن أرصاد الوعي تسمى الأفكار التلقائية بـ(الاقتراحات التلقائية) ، والتي تعمل تماماً كما في حالة الوعي ، وهي عُقد يربط بين المثيرات والدوافع عبر الدلالات والتأويلات التي ارتبط بها العقل اللاشعوري المرتبط بعقل شعوري وذات قيمية معروفة. هكذا تكون الأفكار التلقائية مصدراً لتوجيه السلوك للمنوّم مغناطيسياً وعلى حسب قدرة المنومين على كشف تلك الأفكار والمعتقدات العميقة المنتجة لها ، وقدرتهم على التعامل معها وتغييرها يكون التفاضُل بينهم في العلاج.

إنه البرهان الحق على وجود العقل الغيابي وطبيعته الحاسوبية المجردة عن قيود الزمن المحلي ، وكافة الأدلة والبراهين التي سبق ذكرها تسري في مجرى تياره الفضائي.
 
الخاتمة ...

في هذا المقال تم الحديث عن العقل الغيابي أو الباطن ، في جوهره الحقيقي ووظائفه الزمنية ...

الآراء والمبادئ التي عرضت فيه تتعلق بشكل أساسي بموقعه الزمني والوجودي كما يمكن إدراكه والبرهنة عليه والتحقيق فيه ، بالتحقيق الفينومينولوجي الإدراكي وبعيداً عن التواضع الاسمي.

أهم ما ورد :
  1. ما هو الإدراك وما هو العقل.
  2. الأسس الإدراكية لعلم العقل الزمني.
  3. الفرق بين العقل المُدرك والعقل اللامُدرَك ( الباطن ).
  4. ذكر العقل والنفس والروح عبر التاريخ وفي القرآن الحكيم.
  5. ما البراهين التي تنبه القوى الإدراكية لوجود هذا العقل.
  6. التخاطر \ السمنمة \ السحر \ التنويم المغناطيسي والبراسيكولوجيا وفق نموذج العقل الزمني.
  7. كيف يعمل العقل الباطن ( الاقتراحات - الأفكار التلقائية - الاقتراح المضاد - النموذج التأويلي المعرفي للعالم وتكوين السلوك النفسي والجسدي ).

آمل أن يكون نافعاً لكم وبانتظار أي سؤال أو ملاحظة ...

تحياتي ^_^
 

أداب الحوار

المرجو إتباع أداب الحوار وعدم الإنجرار خلف المشاحنات، في حال كانت هناك مضايقة من شخص ما إستخدم زر الإبلاغ تحت المشاركة وسنحقق بالأمر ونتخذ الإجراء المناسب، يتم حظر كل من يقوم بما من شأنه تعكير الجو الهادئ والأخوي لسايكوجين، يمكنك الإطلاع على قوانين الموقع من خلال موضوع [ قوانين وسياسة الموقع ] وأيضا يمكنك ان تجد تعريف عن الموقع من خلال موضوع [ ماهو سايكوجين ]

الذين يشاهدون هذا الموضوع الان (الأعضاء: 0 | الزوار: 1)

أعلى