dandan
الإنسان
- المشاركات
- 109
- مستوى التفاعل
- 422
تصدير : لماذا الكلّانية الآن ...
إن اصعب مشكلة يصادفها الفيلسوف والمفكر والعالم ، هي تصنيف الإشكاليات وترتيبها ، وذلك يحتاج لتصنيف العلوم وترتيبها ، والذي بدوره سيحتاج إلى وضع نظريات عقلية في فلسفة العلم ، وهذا ما فعله رواد كل مذهب فلسفي ، وكل عالم حلُم يوماً بنظرية "كل شيء" هو في الواقع يطبق حلم الفلاسفة في الفيزياء ، كذلك كل فنان يريد الوصول بفنه للمطلق حسب طريقته ، هو في الحقيقة فيلسوف كلّاني يامل الوصول إلى جوهر الكل العظيم.
فقام أرسطو بتقديم النموذج الواقعي ، الذي يستند لواقعية الوجود الفيزيقي والميتافيزيقي ، وبناءً عليه ، كانت الفلسفة تعني المبادئ والموضوعات لكل العلوم الحقيقية ، التي تشمل الوجوديات والطبيعيات والرياضيات ، وكانت منظومة أرسطو تستند إلى مبدأ رئيسي واحد هو السؤال عن المعرفة الحقيقية ، حيث لحق أفلاطون في مبدئه باعتبار ما هو موجود يجب أن يكون معروفاً معرفة حقيقية ، وبالتالي فالفلسفة بوصفها دراسة للوجود هي دراسة للمعرفة الحقيقية ، التي تتاسس على المنطق الصوري.
ثم أتت منظومة القديس توما الأكويني ، الاسكولائية ، التي عرفت الوجود بأنه علاقة بين الخالق والمخلوق ، وأن الله هو النبع الوجودي الخالص ، فالموجود إما أن ينبع من النبع أو أن يكون هو النبع ، وبهذا قام بتصنيف الكل على أنه هرم اللاهوت ، واستحالت المسائل المعرفية إلى أربعة اقسام : معرفة الله ومعرفة الوجود الفائض عن الله ، ومعرفة العلاقة الروحية التي بين الوجود الخارجي ( الإنسان ) والوجود الداخلي ( الله ) ، والمعرفة الوضعية ( التي تواضع عليها الناس ) ، وبهذا يكون قد اقترب كثيراً إلى مبادئ وحدة الوجود الكلّانية.
وجاءت ثلاث منظومات أخرى لتصنيف الوجود ، وبالتالي لتصنيف المعرفة ، منظومة التجريبيين ، ومنظومة العقليين ، ومنظومة الوضعيين ...
اتصفت المنظومة التجريبية باعتبار الفلسفة هي العلوم العقلية ، والعلم هو العلوم الطبيعية ، وذلك من مبدأ : وجود الشيء يعني رصده رصداً حسياً-عقلياً ، وبهذا كانت التجربة اداة إثبات الوجود ، وتختلف التجربة عن الحس المجرد في أنها تحتاج لتصورات عقلية معينة لاستيعابها ، فهي تقدم المقدمة الكبرى للذهن ، الذي يفككها ويؤولها ، وبهذا كانت العلوم العقلية هي آلة العلوم الطبيعية في إثبات صدق وجود الطبيعة الخارجية ، وصدق ماهيات الأشياء في هذه الطبيعة ، وكان لفرنسيس بيكون وتوماس هوبز الفضل في نشر هذه المنظومة ، وقام بصقلها وتهذيبها كارل ماركس وإنجلز من خلال التأكيد على أن الوجود هو علاقات جدلية مادية-عقلية.
أما المنظومة المثالية ، التي أسسها ديكارت وكانط وهيجل على التوالي ، فاعتبرت أن الوجود هو العقل ، وبالتالي فعلم الوجود هو علم العقل المطلق ، ومع وجود اختلافات جذرية بين الثلاثة ، إلا أنهم جميعاً آمنوا بأن تنظيم العلوم يعني تنظيم الموضوعات حسب العلاقة بين العقل وبين هذه الموضوعات ، وعندما خلف هيجل كانط ، اعتبر أن الوجود هو علاقات جدلية بين الكيانات المجردة ، وبدون الجدل ليس هناك وجود لشيء ، فوجود الشيء هو علاقاته بالأشياء الأخرى ، وبهذا اقترب أكثر إلى المفهوم الكلّاني للوجود.
وأخيراً جاءت المنظومة التي سيطرت منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم ، وهي الفلسفة الوضعية ، التي اعتبرت الوجود هو مجموعة من الظواهر التي ليس لها جوهر ما أو بنية معينة ، حيث أن الكليات التي تهتم بها العلوم العقلية ، ليست إلا مجموعة من الألفاظ تواضع الناس عليها بسبب التشابه والترابط بين الجزئيات ، مما أدى لافتراض وجود كليات تحكم هذه الجزئيات ، وهذا بدوره يعني انه لا وجود للحقيقة بوصفها حقيقة ، وبالتالي لا يوجد وجود حقيقي ، ووظيفة العلم هي معرفة ظواهر الأمور من خلال الحس الراصد للأبعاد الزمانية والمكانية للأشياء ، وليس من الممكن للإنسان أن يعرف الحقيقة ، لذلك فالعلوم الحقيقية هي العلوم الطبيعية التي تستخدم المنهج الكمي حصراً ، والعلوم العقلية هي علوم وضعية يمكن تسميتها بالفلسفة للتفريق بينها وبين العلم.
لقد راج اليوم المذهب الوضعي في أسوء اشكاله على الإطلاق ، ورغم أنه ينكر وجود الحقيقة المطلقة ، فقد تم اعتباره الحقيقة المطلقة الواحدة والوحيدة ، وهذا هو السبب في تكذيب جميع العلوم التجاوزية ، أو محاولة تأويلها على أنها علوم مادية بحتة وأن الوعي هو سلسلة من الذبذبات ، وهذا ساهم بشكل كبير في الابتعاد عن جميع المناهج الكيفية والمناهج العقلية ، وحتى المناهج التجريبية الأصيلة ، ومحاربتها من قبل جميع السلطات العلمية في العالم ، ومن الواضح أن الجمود الفلسفي الميتافيزيقي عند المذهب الوضعي ماذا يخدم ولماذا يتم دعمه.
إن جميع هذه المنظومات تعتمد كل منها على سؤال واحد يتفرع منه كل الأسئلة الأخرى ، وهو "ما هو الوجود ، وما هو الموجود" ، هذا السؤال هو الذي قاد خارطة التاريخ عبر الأجيال في جميع المجالات الفكرية والعلمية والاقتصادية والأدبية والفنية ....
وجميع هذه المنظومات حققت مبدأ الكلانية الثاني ، ألا وهو بناء هرم المعارف والعلوم حسب الموضوعات أي حسب طبقات الوجود ، لكنها جميعها اغفلت المبدأ الأول والأهم للمنهج الكلّاني في التفلسف ، ألا وهو : السؤال عن الوجود والموجود ، أو بالأحرى ، السؤال : ما هي الطبيعة النهائية للكينونة الكلّانية ؟
يمكن أن نبدأ التفلسف من اي موضوع نحبه ، فيمكن أن نبدأ من خلال البحث عن منهج البحث عن الحقيقة ، أو من خلال البحث عن البنية الوجودية للحقيقة ، هذا كله تفلسف ، ولكنه ليس تفلسفاً كلّانياً ، التفلسف الكلّاني يهدف إلى بناء منظومة كاملة وشاملة عن كل المعارف والموجودات ، وكل شيء يمكن أن يكون ، مهما كانت الطريقة التي بها يكون ، لن هذا هو مفتاح الوصول للحقيقة ، إنه السؤال عن الكينونة ، السؤال بصيغة : ماذا يكون الكل بكل تفاصيله ، أو بالصيغة التي أحب ان أطرحه بها : ماذا هي الكينونة الكلّانية ؟.
ومن المؤكد ان من يصل إلى الإجابة عن هذا السؤال بطريقة صحيحة ، حتماً سوف يصل إلى مفتاح مفاتيح الكون ، لأن الإجابة عليه ستحدد الإجابة على سؤال المنهج وسؤال الموضوع وسؤال النموذج الخاص بكل الكينونات المتفرعة عن الكينونة الكلّانية ، وهنا نعتبر كلمة "الكينونة" تشير إلى جميع الأشياء المتعلقة بشيء معين ، بما فيها الموضوع والمنهج والنموذج الخاص بالعلم الخاص بهذا الشيء ، إن البحث في الكينونة الخاصة بعلم ما يعني البحث في المبدأ الأساسي لهذا العلم ، أما "الكلّانية" فهي تشير إلى أن الكينونة التي تناقش هي الأعم والأشمل التي تشمل جميع الكينونات الأخرى.
ومن هنا ستبدأ رحلتنا مع الفلسفة الكلّانية ، التي هي فلسفة نظرية ( تسعى للمعرفة المجردة ) وعملية ( تسعى للاستفادة من هذه المعرفة استفادة كلّانية ) ، والهدف النهائي منها هو تحقيق الاتصال بين الكينونة الذاتية ( كينونة الفرد ) والكينونة الموضوعية ( كينونة الوجود ) لأن ذلك سيجعل الفرد يقوم ب"الفعل الكلّاني" الذي هو أعظم فعلٍ يمكن للمرء أن يفعله ، الذي هو تحقيق الكينونة المطلقة.
وإني أتقدم بالشكر الجزيل لموقع سايكوجين لأنه سيسمح بأن يكون النبع الذي ستخرج منه الفلسفة الكلّانية إلى الوجود ، وذلك عندما تلتم أجزاء هذا الكتاب المبعثرة ، والذي سيتطلب جهداً ووقتاً والثاني هو ما لا أملكه حالياً ، إلا في أوقات الفراغ المبعثرة ، وأقدم جزيل الشكر لأعضاء سايكوجين والفا لما قدموه من معارف نفيسة ساعدتني في إعادة تكوين الكلّانية عدة مرات إلى ان وصلت لهذا الشكل.
التعديل الأخير: