تصدى للرد على دان جيبسون، أحد الأساتذة الأكاديميين المعروفين في هذا التخصص، وهو البروفيسور ديفيد كينج المتخصص في الدراسات الإسلامية، الذي درس وتخرج من جامعة كامبردج ثم الماستر من أكسفورد ببريطانيا ثم الدكتوراة من جامعة يل بالولايات المتحدة، وله أكثر من خمسة عقود خبرة تدريس وبحث ونشر أوراق وكتب علمية في هذا الموضوع ونال العديد من الجوائز العلمية، أي لن نجد كثيرًا لهم مثل علمه ودرايته بهذه الموضوعات. ويبدو أنه كان متقاعدًا فهو في السبعينات من عمره، عندما قرأ كتاب جيبسون هاله النتيجة التي توصل إليه جيبسون فخرج من تقاعده لكتابة الرد الذي وضعت عنوانه الألكتروني في موقع المضاربة، الدراسة التي قدمها في رده مفصّلة وعلمية ومفحمة وقاطعة، يمكنكم الإطلاع عليها في موقع muslimheritage.com جزاهم الله خيرًا على هذا العمل الرائع، وسأحاول هنا إقتباس وترجمة أجزاء قليلة من المقال المنشور على موقع مسلم هيريتدج، على قدر ما أتمكن من صحة الترجمة، ووفق ما يقدرني الله عليه، ويمكنكم قراءة الأصل باللغة الإنجليزية في الموقع المذكور.
يقول ديفيد كينج في المقدمة تحت عنوان ” ملاحظة أولية: يزعم كتاب دان جيبسون الجديد أنه يقلب رأساً على عقب كل ما نعرفه عن أحد ممارسات العبادات الإسلامية المبكرة، وهو الإتجاه المقدس (القبلة) نحو الكعبة في مكة. وهو يعتقد أن الإسلام بدأ في البتراء وليس في مكة ، وأن وجهة صلاة المسلمين في القرنين الأولين كان باتجاه البتراء وليس مكة. كدليل على ذلك يحاول أن يظهر أن العشرات من المساجد الأوائل كانت تتجه نحو البتراء بدقة ملحوظة. وحيث أن أفكاره الثورية هذه تتجاهل ما أسست له الدراسات الحديثة حول القبلة المبكرة، فإنني أقدم نظرة عامة عن كيف كانت الأمور في الواقع آنذاك. ثم أبين كيف أن جيبسون قد أساء فهم معظم البيانات المتاحة له، ومقارنة اتجاهات مساجد العصور الوسطى مع الاتجاهات الحديثة للبتراء ومكة، ولماذا كان تفسيره خاطئ تماما. باختصار، لقد تسبب في إحداث فوضى عارمة بالمعلومات التي لا يستطيع إتقانها، وقام – عن قصد أو عن غير قصد – بإنتاج وثيقة غير علمية وغير حرفية مسيئة للمسلمين، وكذلك مسيئة للدراسات الأكاديمية الإسلامية والغربية. إذ ليس أي من المساجد التي درسها وحققها جيبسون له أي علاقة بالبتراء. وفي الواقع ، ولا الإسلام في القرون الأولى له علاقة بالبتراء.“
ويضيف البروفيسور ديفيد كينج:
“الهدف النهائي لهذه الورقة البحثية هو هدم أطروحة البتراء في كل الأزمنة. أنا أواجه أطروحة جيبسون الغير علمية بحقيقة بسيطة مفادها أن المسلمين الأوائل لم يكن في مقدورهم أبدًا أن يوجهوا المساجد بدقة نحو البتراء ، أو حتى نحو مكة. والأسهل هدم أطروحة جيبسون الإحتياطية الثانية، التي تقول أن الأجيال الأولى من المسلمين كانت تمتلك كل المعدات التقنية اللازمة – مثل علم المثلثات ، الهندسة، الإحداثيات الجغرافية، الأجهزة الفلكية – لتحديد اتجاه البتراء بدقة لأي موقع من الأندلس إلى الصين. لأن هذه المعدات في الواقع أصبحت متوفرة للمسلمين في العراق فقط في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع، ولهذا فإن محاولة جيبسون تصنيع الأدلة من أجل حقبة سابقة (في القرن السابع) تسقط تماماً.“
ويستمر البروفيسور في شرح أن المساجد في الفترة الأولى كانت توجه وفق الفلك الشعبي (أو البلدي) Folk Astronomy، وكانوا يوجهوها نحو الشروق والغروب الشتوي والصيفي، وكانوا يقولون عنه وجهة الصحابة، وهذا مثل الذي قاله لنا أصحاب إسلاميك أوارنيس Islamic Awareness قبل قرابة عشرون سنة، والبروفيسور كينج له دراسة علمية فلكية عن الكعبة وإتجاهاتها، بل واعتمد دان جيبسون على بعض مؤلفات البروفيسور حيث أنه –أي ديفيد كينج- ربما كان من أوائل من قالوا أن المساجد الأولي لم تكن تتجه للكعبة ولكن دان لم يعي ما كتبه البروفيسور وسار في طريق مختلف.
ويضيف البروفسور كينج:
“إن اكتشاف” جيبسون أن معظم المساجد المبكرة كانت متجهة بدقة نحو البتراء هو أمر غير متوقع لأن الأجيال الأولى من المسلمين ليس لديها أي وسيلة على الإطلاق لإيجاد اتجاه البتراء بدقة ضمن درجة أو درجتين ، لأسباب أقلها أنهم لم يكونوا يستطيعوا الحصول على أي إحداثيات جغرافية ، ناهيك عن الأحداثيات الجغرافية التي لدينا اليوم، وليس لديهم أي حسابات على الإطلاق. وتجاهل حقيقة أن العديد من مساجده تتوازى إما مع cardinally or solstitially ( وترجمتهما أنهما الإتجاهات الأربعة أو مع اتجاهات الشروق والغروب الموسمية). أن نجد أن المساجد المبكرة لا تواجه مكة كما نرى نحن في زماننا هذا فهذا ما نتوقعه ولا يجب أن نتفاجأ، لأن المسلمين الأوائل لم يكن لديهم أي وسيلة لإيجاد اتجاه مكة بشكل دقيق، رغم أنهم فعلوا ذلك بأفضل ما يمكنهم من خلال الوسائل المتاحة لهم. إن مقارنة الإتجهات في العصور الوسطى مع الاتجاهات الحديثة القائمة على المعرفة الجغرافية الحديثة والصيغ المثلثية الدقيقة، ليس له أي قيمة علمية. إن القيم الحديثة للاتجاهات من مكان إلى آخر بعيد لا قيمة له عند دراسة اتجاهات المباني التاريخية. أكرر هذا على أمل أنه حتى جيبسون قد يفهم.”
وفي النهاية يقول البروفيسور ديفيد كينج:
“بالنسبة للغيرمطّلع، يبدو كتاب جيبسون للوهلة الأولى وكأنه قمة لما يمكن تحقيقه من قبل هواة متلهفين ومبدعين في التاريخ الإسلامي، حتى بدون معرفة جادة باللغة العربية الكلاسيكية وبدون تلقي تعليم نقدي في الدراسات الإسلامية. ولكن ما توصل اليه في الواقع ليس إلا تشكيل من السقالات يغلف الكعبة التي تخيلها في البتراء ، والسقالات أكثر من جاهزة للإنهيار. ومع ذلك، فإن نشره هذه الفرضيات يمثل كارثة هائلة للدراسات التاريخية (وأكثر من ذلك بالنسبة للمجتمع المسلم بأكمله) ويرجع ذلك في المقام الأول إلى وجود عدد قليل جدًا من الأشخاص الذين لديهم المؤهلات اللازمة للحكم على هذا العمل بما له من قيمة، والتي (أي قيمته) لن تتعدى بعض الصور الجميلة. هناك أجزاء أخرى من الكتاب يكون آخرين مؤهلين أكثر مني للتطرق إليها، وآمل أن لا ينخدعوا باستنتاجات المؤلف حول وجهات المساجد الأولى.”
ويضيف السيد كينج أيضًا:
“جيبسون ، بعد أن تأكد في رأيه أن المسلمين كانوا يصلون في الاتجاه الخاطئ لأكثر من ألف عام ، ويعرب عن أمله في أن المسلمين سوف يرون الآن الضوء (ص 272). لكن في الواقع ، أرى أن ليس لديهم –أي للمسلمين- ما يدعو للقلق فيما يعتقده بهذا الخصوص. لإن جميع تحقيقات جيبسون فيما يخص وجهات المساجد الأولى في القرون الوسطى باستخدام البيانات الحديثة والطرق الرياضية الحديثة ليست ذات قيمة تاريخية. إن الجهود التي يبذلها لإظهار أن المسلمين من الصين إلى الأندلس يجب أن يكون لديهم كل المعدات التقنية اللازمة للعثور على اتجاه البتراء بدقة لا تتجاوز أنحراف درجة أو درجتين هي مقولة سخيفة. ولحسن الحظ ، مهمته تدمر نفسها ذاتيًا.” أنتهى كلام البروفيسور ديفيد كينج.