ماني و المانوية
برغم قلة الوثائق وعمليات التعتيم والتشوية، إلا ان هنالك معلومات اساسية يتفق عليها جميع المؤرخون:
ولد (ماني) في 14 نيسان عام 216 ميلادية، قرب (المدائن) التي كانت مركز ولاية بابل والعاصمة الثانية للأمبراطورية الإيرانية. ولهذا يطلق على هذا النبي لقب (ماني البابلي)...واسمه( ماني بن فاتك ـ او فاتق) وامه اسمها(مريم)، وانه ولد في 14 نيسان عام 216 ميلادي في ولاية بابل(وسط العراق) في احدى القرى القريبة من (المدائن)، ولهذا يطلق عليه لقب( ماني البابلي). ويقول عنه المؤرخ العراقي العباسي (ابن النديم) في ( الفهرست): ((نبي الله الذي أتى من بابل)). وكان دين عائلته عراقي قديم( عبادة الكواكب). وفي سن الرابعة رحل به أبوه إلى احدى قرى ولاية (ميسان) في جنوب العراق. هناك نشأ (ماني) على الدين الصابئي. وفي سن الشباب أخذ (ماني) يتنقل في أنحاء النهرين واستقر في (المدائن) جنوب بغداد حيث انشأ كنيسته التي اطلق عليها (كنيسة بابل) واصبحت المرجعية العليا لجميع الكنائس المانوية في جميع انحاء العالم من الصين حتى اسبانيا بلاد الغال. واللقب الذي كان يُعرف به هو (ماني حيا) أي (ماني الحي)، ومنه أتى المصطلح اللاتيني لهذا الدين (Manicheisme) أي (ماني- حيا- سيم). (لمزيد من التفاصيل راجع الموسوعة الكونية الفرنسية - جزء 11-ص646).
لكن مشكلة تحديد هوية هذا الدين وصانعه (ماني)، تبدأ عند الحديث عن الشعب والحضارة اللذين ينتمي إليهما. بكل بساطة تم اعتباره إيرانياً فارسياً لأنه ظهر في العراق بينما كانت تابعا للأمبراطورية الايرانية. مثلما تم اعتبار المسيح وتراث المسيحية جزءاً من تاريخ روما، لأن المسيحية نشأت في الشام في ظل السيطرة الرومانية!
ثم إن (الثنوية) التي اعتقدت بها المانوية لم تكن ايرانية، كما تصور خطأ الكثيرين من المؤرخين، بل هي أساس المعتقدات العراقية والشامية. كان هناك دائماً آلهة للخير والنور بأسماء متنوعة مثل (تموز وبعل وشمش وإيل ومردوخ وآشور)، تقابل آلهة الشر مثل (نرجال وأريشكيجال وايرا وموت). وثنائية الخير والشر هذه وجدت تعبيرها في الأديان السامية السماوية من خلال مفهوم الله رمز الخلق والخير والنور، والشيطان رمز الشر والخطيئة والظلام. (راجع السواح-مغامرة العقل-ص197).
كذلك يتفق المؤرخون جميعهم على ان اللغة الأم للنبي (ماني) ولغة كتبه السبعة وإنجيله المقدس، هي (اللغة السريانية) العراقية. وقد ترجمت جميع كتبه فيما بعد الى اللغات الفارسية والتركية (الايغورية) واليونانية واللاتينية والقبطية. ومن بين الاقوال القليلة التي توثقت لهذا النبي، ثمة القول التالي الذي يحدد فيه الهوية العراقية لدينه: (( إن الحكمة والمناقب لم يزل يأتي بها رسل الله بين زمن وآخر، فكان مجيئها في زمن على يد الرسول (بوذا) إلى بلاد الهند، وفي زمن على يد (زرادشت) الى أرض فارس، وفي زمن على يد (عيسى) إلى أرض المغرب (الشام). ثم نزل هذا الوحي وجاءت النبوة في هذا الزمن الأخير على يديّ أنا (ماني) رسول إله الحق الى أرض بابل...))(راجع-إيران في عهد الساسانيين - ص 172). ثم إن الأكثر من كل هذا، إصرار (ماني) على جعل بابل مقر الكنيسة الأم ومركز المرجعية الدينية والحوزة العلمية لجميع الطوائف المانوية في العالم، وبقي هذا التقديس الخاص لبابل لدى المانويين حتى نهايتهم بعد ألف عام.
يمكن اعتبار المانوية ديانة تصوف (عرفانية، غنوصية) متطرفة في الزهد والتنسك وتقديس الموت واحتقار ماديات الحياة. وهذه هي نقطة الضعف الاساسية في هذا الدين. في اليهودية والمسيحية والاسلام، هنالك زهد وتنسك ورهبنة، لكن يبقى هذا الجانب يمثل صفوة مختارة، اما غالبية رجال الدين والمؤمنيين فهم يعيشون حياة واقعية وعملية حسب الظرف السائد. بينما المانوية اصرت ان تكون باجمعها وبكل اعضاء مؤسستها الدينية، تمارس الزهد والتصوف والعزلة.
يمكن تلخيص (المانوية) بالعقيدة التالية: إن الخطيئة ترتكب بثلاث وسائل: القلب (النية) والفم (الكلمة) واليد (الفعل). لهذا فإن وصايا (ماني) كانت : ((لا ترتكب الخطيئة، لا تنجب، لا تملك، لا تزرع ولا تحصد، لا تأكل لحماً ولا تشرب خمراً)). صحيح ان هذه الوصايا لا يستوجب تطبيقها من قبل جميع أتباع المانوية، إنما فقط من قبل النخبة الدينية، إلا انها تبقى قاسية وشبه مستحيلة، وبالتالي شكلت المانع الاول والاكبر بايجاد ما يكفي من الرجال القادرين على الانتماء للسلك الديني المانوي.
عاش (ماني) تجربة قاسية ناحية امه، إذ امضى طفولته محروما منها، بل محروما من حنان الانوثة بصورة تامة. وتبدأ المعانات عندما تخلي ابوه عن ديانته العراقية القديمة، واعتنق ديانة روحانية جديدة، اما ان تكون الصابئية نفسها او طائفة منشقة عنها. وكانت الصابئية عموما منتشرة بكثرة في جنوب العراق. والمشكلة ان هذا الطائفة المحسوبة على الصابئية التي انتمى اليها (فاتك) كانت تعادي المرأة وتعتبرها (رجسا من عمل الشيطان)، وترفض اي اتصال بها او تقرب منها، بل ترفض حتى دورها الامومي! لهذا ما ان بلغ الطفل (ماني) عمر اربع سنوات، حتى اتى ابيه(فاتك) من (ميسان) حيث كان منعزلا مع طائفته، واخذه من امه مريم، ليعيش معه هناك في حياة الزهد والتعبد، بعيد عن الحياة( الفاسقة!)، وعن المرأة خصوصا!.بقي (ماني) صابئياً حتى سن الواحدة والعشرين، بعدها بدأ تأثره مباشرة بالمسيحية وخصوصاً بالتجربة الحياتية للسيد المسيح وعذابات صلبة. وتذكر التقاليد المانوية أنه في سن الرابعة والعشرين، في 23 نيسان 240م. تلقى (ماني) رسالة النبوة من الله بواسطة الملاك ( توما ـ توأم) على أنه هو (الروح القدس) الذي بشر به (النبي عيسى). حينها بدأ (ماني) يعلن أنه (نبي النور) و(المنير العظيم المبعوث من الله). نتيجة هذا تم طرده من طائفته.
رحل (ماني) مع أبيه وإثنين من أصحابه إلى (المدائن)، منها قام بأول رحلة عبر بلاد فارس ثم الى الهند وبعدها إلى بالوشستان، حيث عاين ودرس الأديان السائدة من زرادشتية وبوذية وهندوسية. بعد عامين (242م) عاد (ماني) إلى ميسان بحرا عبر الخليج.
بعد ان انتشرت دينته في كل مكان، وفي تاريخ غير محدود بصورة تامة، بين (274-277) ميلادية، تم صلب (ماني) على أحد أبواب مدينة بيت العابات (جندشابور) في الأحواز. تم ذلك بقرار من الامبراطور الفارسي (برهام الأول) لأسباب سياسية طبعاً وبعد تحول (بابل) إلى مركز لدين عالمي واحتمال استعادتها من جديد لأمجادها السابقة، وما يشكله هذا من خطر على النفوذ الايراني. كذلك خوف رجال الدين الزرادشتيين الذين نقموا على (ماني) بسبب تأثيره المتزايد. لقد عذب (ماني) وصلب وقطعت أطرافه ثم احرقت جثته ونثر رماده. لكن المانويين ظلوا يعتقدون بصعوده إلى السماء مثل السيد المسيح، ويعتبرون هذا اليوم مقدساً يصومون خلاله ثلاثين يوماً في شهر نيسان
والملاحظ من ذلك شبه المانوية للغنوصية (العرفانية)، وهي مصطلح عام يطلق على سلسلة عريضة من نظم التأملات الدينية التي تتماثل في نظرتها إلى أصل الإنسان. وهي تعد هرطقة من الهرطقات المسيحية وهي سابقة على المسيحية. وجميع الديانات الغنوصية تعتمد عقيدة الخلاص (الفداء) وأداة الخلاص هي (غنوص Gnose) التي تعني المعرفة أو (العرفان) وهذه المعرفة تهتم بفهم الأشياء المقدسة وكيفية الخلاص، والغنطسة لا تتحصل عن طريق العقل وإنما من خلال نوع من الإلهام الداخلي.
يمكن اعتبار المانوية أساس التصوف، فهي “دين” (غنوصي – عرفاني) متطرف في الزهد والتنسك، وتقديس الموت، واحتقار ماديات الحياة. قد تكون المانوية التي نشأت في بلاد الرافدين، تعبيراً عن ردة فعل سلبية ومتشائمة، إزاء الظروف القاسية التي عاشها السكان بسبب السيطرة الفارسية، وفشل ثوراتهم ودمار الرافدين، بعد تحول البلد إلى ساحة للحروب الدائمة بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية. ثم الشعور بالخيبة والحسرة على ضياع أمجاد بابل القديمة، وفقدان الأمل بأية قدرة على الخلاص إلا بالزهد وتجنب ملذات الحياة.
و قوام الخلاص هو تحرير الروح من سجنها الجسدي فبذلك يمكنها أن تصعد لله، هذا وقد سبب لها تعايشها الطويل مع الجسد نسيان أصلها السامي أي سبب لها الجهل، والخلاص من الجهل هو المعرفة، ولذلك هو بحاجة للمخلص والذي سمى "ابن الله" أو "يسوع". والجسد ورغباته شر لأنهما يمنعان الروح من الخلاص ولذلك تشجع المانوية على الزهد والرهبنة.
تحرم المانوية كل ما من شأنه تشجيع شهوات الجسد الحسية، وبما أن اللحم ينشأ من الشيطان فلذلك كان محرما، فالمانوية أعدوا ليعيشوا على الفواكه وخاصة البطيخ، كما أن الزيت مستحسن. أما الشراب فقد كان عصير الفواكه هو الاختيار الأول وفرض اجتناب تناول كمية كبيرة من الماء لأنه مادة جسدية، كما حرم عليهم قتل الحيوانات والنباتات ومن يفعل ذلك فإنه سيعاقب بولادته من جديد الشيء الذي قتله، فرض عليهم التخلي عن الزواج والمعاشرة الجنسية التي تعتبر شيئا شريرا كما عد الإنجاب أسوأ منها بكثير. وحدهم «المجتبون» هم الذين تمكنوا من تنفيذ هذه الوصايا، أما «السماعون» فقد أوكل إليهم القيام بالأعمال المحظورة على المجتبين وتزويدهم بالطعام، ويترافق تناول تلك الأطعمة بإعلان براءة المجتبين من ذلك الفعل. مثال على قول أحدهم عند أكله للخبز: «لم أحصدك ولم أطحنك ولم أعجنك ولم أضعك في الفرن بل فعل ذلك شخص آخر وأحضرك إلي فأنا أتناول دونما إثم.» كما أن ممارسة الاعتراف والتوبة قانون هام.
وهناك تكملة ........................................................
نقل وتحرير..........................................................
برغم قلة الوثائق وعمليات التعتيم والتشوية، إلا ان هنالك معلومات اساسية يتفق عليها جميع المؤرخون:
ولد (ماني) في 14 نيسان عام 216 ميلادية، قرب (المدائن) التي كانت مركز ولاية بابل والعاصمة الثانية للأمبراطورية الإيرانية. ولهذا يطلق على هذا النبي لقب (ماني البابلي)...واسمه( ماني بن فاتك ـ او فاتق) وامه اسمها(مريم)، وانه ولد في 14 نيسان عام 216 ميلادي في ولاية بابل(وسط العراق) في احدى القرى القريبة من (المدائن)، ولهذا يطلق عليه لقب( ماني البابلي). ويقول عنه المؤرخ العراقي العباسي (ابن النديم) في ( الفهرست): ((نبي الله الذي أتى من بابل)). وكان دين عائلته عراقي قديم( عبادة الكواكب). وفي سن الرابعة رحل به أبوه إلى احدى قرى ولاية (ميسان) في جنوب العراق. هناك نشأ (ماني) على الدين الصابئي. وفي سن الشباب أخذ (ماني) يتنقل في أنحاء النهرين واستقر في (المدائن) جنوب بغداد حيث انشأ كنيسته التي اطلق عليها (كنيسة بابل) واصبحت المرجعية العليا لجميع الكنائس المانوية في جميع انحاء العالم من الصين حتى اسبانيا بلاد الغال. واللقب الذي كان يُعرف به هو (ماني حيا) أي (ماني الحي)، ومنه أتى المصطلح اللاتيني لهذا الدين (Manicheisme) أي (ماني- حيا- سيم). (لمزيد من التفاصيل راجع الموسوعة الكونية الفرنسية - جزء 11-ص646).
لكن مشكلة تحديد هوية هذا الدين وصانعه (ماني)، تبدأ عند الحديث عن الشعب والحضارة اللذين ينتمي إليهما. بكل بساطة تم اعتباره إيرانياً فارسياً لأنه ظهر في العراق بينما كانت تابعا للأمبراطورية الايرانية. مثلما تم اعتبار المسيح وتراث المسيحية جزءاً من تاريخ روما، لأن المسيحية نشأت في الشام في ظل السيطرة الرومانية!
ثم إن (الثنوية) التي اعتقدت بها المانوية لم تكن ايرانية، كما تصور خطأ الكثيرين من المؤرخين، بل هي أساس المعتقدات العراقية والشامية. كان هناك دائماً آلهة للخير والنور بأسماء متنوعة مثل (تموز وبعل وشمش وإيل ومردوخ وآشور)، تقابل آلهة الشر مثل (نرجال وأريشكيجال وايرا وموت). وثنائية الخير والشر هذه وجدت تعبيرها في الأديان السامية السماوية من خلال مفهوم الله رمز الخلق والخير والنور، والشيطان رمز الشر والخطيئة والظلام. (راجع السواح-مغامرة العقل-ص197).
كذلك يتفق المؤرخون جميعهم على ان اللغة الأم للنبي (ماني) ولغة كتبه السبعة وإنجيله المقدس، هي (اللغة السريانية) العراقية. وقد ترجمت جميع كتبه فيما بعد الى اللغات الفارسية والتركية (الايغورية) واليونانية واللاتينية والقبطية. ومن بين الاقوال القليلة التي توثقت لهذا النبي، ثمة القول التالي الذي يحدد فيه الهوية العراقية لدينه: (( إن الحكمة والمناقب لم يزل يأتي بها رسل الله بين زمن وآخر، فكان مجيئها في زمن على يد الرسول (بوذا) إلى بلاد الهند، وفي زمن على يد (زرادشت) الى أرض فارس، وفي زمن على يد (عيسى) إلى أرض المغرب (الشام). ثم نزل هذا الوحي وجاءت النبوة في هذا الزمن الأخير على يديّ أنا (ماني) رسول إله الحق الى أرض بابل...))(راجع-إيران في عهد الساسانيين - ص 172). ثم إن الأكثر من كل هذا، إصرار (ماني) على جعل بابل مقر الكنيسة الأم ومركز المرجعية الدينية والحوزة العلمية لجميع الطوائف المانوية في العالم، وبقي هذا التقديس الخاص لبابل لدى المانويين حتى نهايتهم بعد ألف عام.
يمكن اعتبار المانوية ديانة تصوف (عرفانية، غنوصية) متطرفة في الزهد والتنسك وتقديس الموت واحتقار ماديات الحياة. وهذه هي نقطة الضعف الاساسية في هذا الدين. في اليهودية والمسيحية والاسلام، هنالك زهد وتنسك ورهبنة، لكن يبقى هذا الجانب يمثل صفوة مختارة، اما غالبية رجال الدين والمؤمنيين فهم يعيشون حياة واقعية وعملية حسب الظرف السائد. بينما المانوية اصرت ان تكون باجمعها وبكل اعضاء مؤسستها الدينية، تمارس الزهد والتصوف والعزلة.
يمكن تلخيص (المانوية) بالعقيدة التالية: إن الخطيئة ترتكب بثلاث وسائل: القلب (النية) والفم (الكلمة) واليد (الفعل). لهذا فإن وصايا (ماني) كانت : ((لا ترتكب الخطيئة، لا تنجب، لا تملك، لا تزرع ولا تحصد، لا تأكل لحماً ولا تشرب خمراً)). صحيح ان هذه الوصايا لا يستوجب تطبيقها من قبل جميع أتباع المانوية، إنما فقط من قبل النخبة الدينية، إلا انها تبقى قاسية وشبه مستحيلة، وبالتالي شكلت المانع الاول والاكبر بايجاد ما يكفي من الرجال القادرين على الانتماء للسلك الديني المانوي.
عاش (ماني) تجربة قاسية ناحية امه، إذ امضى طفولته محروما منها، بل محروما من حنان الانوثة بصورة تامة. وتبدأ المعانات عندما تخلي ابوه عن ديانته العراقية القديمة، واعتنق ديانة روحانية جديدة، اما ان تكون الصابئية نفسها او طائفة منشقة عنها. وكانت الصابئية عموما منتشرة بكثرة في جنوب العراق. والمشكلة ان هذا الطائفة المحسوبة على الصابئية التي انتمى اليها (فاتك) كانت تعادي المرأة وتعتبرها (رجسا من عمل الشيطان)، وترفض اي اتصال بها او تقرب منها، بل ترفض حتى دورها الامومي! لهذا ما ان بلغ الطفل (ماني) عمر اربع سنوات، حتى اتى ابيه(فاتك) من (ميسان) حيث كان منعزلا مع طائفته، واخذه من امه مريم، ليعيش معه هناك في حياة الزهد والتعبد، بعيد عن الحياة( الفاسقة!)، وعن المرأة خصوصا!.بقي (ماني) صابئياً حتى سن الواحدة والعشرين، بعدها بدأ تأثره مباشرة بالمسيحية وخصوصاً بالتجربة الحياتية للسيد المسيح وعذابات صلبة. وتذكر التقاليد المانوية أنه في سن الرابعة والعشرين، في 23 نيسان 240م. تلقى (ماني) رسالة النبوة من الله بواسطة الملاك ( توما ـ توأم) على أنه هو (الروح القدس) الذي بشر به (النبي عيسى). حينها بدأ (ماني) يعلن أنه (نبي النور) و(المنير العظيم المبعوث من الله). نتيجة هذا تم طرده من طائفته.
رحل (ماني) مع أبيه وإثنين من أصحابه إلى (المدائن)، منها قام بأول رحلة عبر بلاد فارس ثم الى الهند وبعدها إلى بالوشستان، حيث عاين ودرس الأديان السائدة من زرادشتية وبوذية وهندوسية. بعد عامين (242م) عاد (ماني) إلى ميسان بحرا عبر الخليج.
بعد ان انتشرت دينته في كل مكان، وفي تاريخ غير محدود بصورة تامة، بين (274-277) ميلادية، تم صلب (ماني) على أحد أبواب مدينة بيت العابات (جندشابور) في الأحواز. تم ذلك بقرار من الامبراطور الفارسي (برهام الأول) لأسباب سياسية طبعاً وبعد تحول (بابل) إلى مركز لدين عالمي واحتمال استعادتها من جديد لأمجادها السابقة، وما يشكله هذا من خطر على النفوذ الايراني. كذلك خوف رجال الدين الزرادشتيين الذين نقموا على (ماني) بسبب تأثيره المتزايد. لقد عذب (ماني) وصلب وقطعت أطرافه ثم احرقت جثته ونثر رماده. لكن المانويين ظلوا يعتقدون بصعوده إلى السماء مثل السيد المسيح، ويعتبرون هذا اليوم مقدساً يصومون خلاله ثلاثين يوماً في شهر نيسان
والملاحظ من ذلك شبه المانوية للغنوصية (العرفانية)، وهي مصطلح عام يطلق على سلسلة عريضة من نظم التأملات الدينية التي تتماثل في نظرتها إلى أصل الإنسان. وهي تعد هرطقة من الهرطقات المسيحية وهي سابقة على المسيحية. وجميع الديانات الغنوصية تعتمد عقيدة الخلاص (الفداء) وأداة الخلاص هي (غنوص Gnose) التي تعني المعرفة أو (العرفان) وهذه المعرفة تهتم بفهم الأشياء المقدسة وكيفية الخلاص، والغنطسة لا تتحصل عن طريق العقل وإنما من خلال نوع من الإلهام الداخلي.
يمكن اعتبار المانوية أساس التصوف، فهي “دين” (غنوصي – عرفاني) متطرف في الزهد والتنسك، وتقديس الموت، واحتقار ماديات الحياة. قد تكون المانوية التي نشأت في بلاد الرافدين، تعبيراً عن ردة فعل سلبية ومتشائمة، إزاء الظروف القاسية التي عاشها السكان بسبب السيطرة الفارسية، وفشل ثوراتهم ودمار الرافدين، بعد تحول البلد إلى ساحة للحروب الدائمة بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية. ثم الشعور بالخيبة والحسرة على ضياع أمجاد بابل القديمة، وفقدان الأمل بأية قدرة على الخلاص إلا بالزهد وتجنب ملذات الحياة.
و قوام الخلاص هو تحرير الروح من سجنها الجسدي فبذلك يمكنها أن تصعد لله، هذا وقد سبب لها تعايشها الطويل مع الجسد نسيان أصلها السامي أي سبب لها الجهل، والخلاص من الجهل هو المعرفة، ولذلك هو بحاجة للمخلص والذي سمى "ابن الله" أو "يسوع". والجسد ورغباته شر لأنهما يمنعان الروح من الخلاص ولذلك تشجع المانوية على الزهد والرهبنة.
تحرم المانوية كل ما من شأنه تشجيع شهوات الجسد الحسية، وبما أن اللحم ينشأ من الشيطان فلذلك كان محرما، فالمانوية أعدوا ليعيشوا على الفواكه وخاصة البطيخ، كما أن الزيت مستحسن. أما الشراب فقد كان عصير الفواكه هو الاختيار الأول وفرض اجتناب تناول كمية كبيرة من الماء لأنه مادة جسدية، كما حرم عليهم قتل الحيوانات والنباتات ومن يفعل ذلك فإنه سيعاقب بولادته من جديد الشيء الذي قتله، فرض عليهم التخلي عن الزواج والمعاشرة الجنسية التي تعتبر شيئا شريرا كما عد الإنجاب أسوأ منها بكثير. وحدهم «المجتبون» هم الذين تمكنوا من تنفيذ هذه الوصايا، أما «السماعون» فقد أوكل إليهم القيام بالأعمال المحظورة على المجتبين وتزويدهم بالطعام، ويترافق تناول تلك الأطعمة بإعلان براءة المجتبين من ذلك الفعل. مثال على قول أحدهم عند أكله للخبز: «لم أحصدك ولم أطحنك ولم أعجنك ولم أضعك في الفرن بل فعل ذلك شخص آخر وأحضرك إلي فأنا أتناول دونما إثم.» كما أن ممارسة الاعتراف والتوبة قانون هام.
وهناك تكملة ........................................................
نقل وتحرير..........................................................