يمكننا أن نرصد حدثين كبيرين؛ الحدث الأول هو اكتشاف مخطوطات نجع حمادي عام 1945، والحدث الثاني هو اكتشاف مخطوطات قمران (مخطوطات البحر الميت) بين عامي 1946 و1947؛ وذلك لأن مخطوطات نجع حمادي فإن دراستها تؤثر مباشرة على طبيعة العهد الجديد المعترف به حاليًا. أما مخطوطات قمران فتقدم نسخًا للعهد القديم مغايرة لتلك المعروفة الآن والمعترف بها أيضًا. لذلك فإن هذه الاكتشافات تعيد رسم خارطة الكتاب المقدس بشقيه العبري والمسيحي، ولهذا السبب تستحوذ على اهتمام الدراسين في الشرق والغرب..
الغنوصية والشبق المعرفي..
من الناحية اللغوية؛ فإن كلمة الغنوصية مشتقة بالأساس من لفظة gnosis اليونانية، والتي تعني المعرفة/العرفان. و”الغنوص Gnosis” هي كلمة يونانية تدل على المعرفة بشكل عام، ولها أشباه في عدد من اللغات الهندوأوروبية، مثل الكلمة السنسكريتية “جناناJnana ، والكلمة الإنكليزية Know بمعنى يعرف، وKnowledge بمعنى معرفة”.
والمقصود بالغنوص المعرفة الباطنية التي تنطلق من عمق الإنسان، ولا تطلب شيئًا خارجه. وموضوعها هو الأسرار الإلهية، التي لا يرقى الجميع لمعرفتها، بل تخص فئة معينة، ترتقي فوق العامة الذين لا يعرفون إلا ظاهر الأمور..
فاستطاعت هي بدورها أن تخلّص الذين يتقبلونها..
ولكن المعرفة التي يسعى إليها الغنوصي ليست تلك التي يكتسبها بإعمال العقل المنطقي وقراءة الكتب وإجراء التجارب والاختبارات، وإنما هي فعالية داخلية تقود إلى اكتشاف الحالة الإنسانية، وإلى معرفة النفس، ومعرفة الاله الحي ذوقًا وكشفًا وإلهامًا. وهذه المعرفة هي الكفيلة بتحرير الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي لتعود إلى العالم النوراني الذي صدرت عنه. فالروح الإنسانية هي قبس من روح الاله، وشرارة من النور الأعلى وقعت في ظلمة المادة، ونسيت أصلها ومصدرها. والإنسان في هذه الحياة أشبه بالجاهل أو الغافل أو النائم أو السكران، ولكن في أعماق ذاته هنالك دوما دعوة إلى الصحو عليه أن ينصت لها، ويشرع في رحلة المعرفة التي تحوله من نفس مادية حبيسة الشهوة، إلى نفس عارفة أدركت روابطها الإلهية وتهيأت للانعتاق الذي يعود بها إلى ديارها..
وهكذا ينقسم العالم إلى عوالم تشكل للإنسان سجونا تحبسه. يحرس هذه السجون أسياد العالم وأراكنته (جمع أركون Archon)؛ وهي تشبه آلهة الكون..!!
وفي النهاية، تعلن الغنوصية أن الكون يشبه جهنم، ووحدها النفس الروحانية الأعلى تشكل قبسا من نور لا يشتعل إلا بقدر ما يتعلق بالعالم الآخر..
اعتبر فالنتينوس نفسه المفسر الحقيقي لتعاليم المسيح، بعد أن نقل إليه معلمُه ثيوداس تعاليم بولس السرية، وأدخله إلى حلقة الباطنيين المتحدين بالآب الأعلى، على الرغم من أن تعاليمه تشكل انشقاقا تامًا عن لاهوت العهد القديم، وتقدم تفسيرات جد مختلفة لحياة يسوع ورسائل بولس..
ويقرر فالنتينوس أن العرفان/الغنوص يؤدي إلى الخلاص والتحرر من عالم المادة، وذلك بعد أن يتعرف الغنوصي على الإله الحق، وعلى طبيعته الروحانية التي هي جزء من طبيعة الإله..
الجدير بالذكر أن أتباع فالنتينوس لم ينشقوا عن الكنيسة رغم أن كل تعاليمهم ضدها، بل اعتبروا أنفسهم على الدوام جزءًا منها. وما تعلمه الكنيسة هو بالنسبة إليهم مرحلة أولية ملائمة لعقول العامة، تعتمد الظاهر من الاعتقاد، أما هم فهم الخواص الذين يعلمون الحقائق العليا الباطنة..
قرر باسيليد بانه في البداية لم يكن سوى العدم والإله الخفي المتشح بالعدم. ثم فاض عن هذا الإله الخفي بذرة الكون التي تضم كل ما هو موجود بالقوة، مثلما تحتوي حبة الخردل بالقوة على الجذور والساق والأوراق. ومن هذه البذرة خرج الأركون الأكبر، وباشر خلق العالم المادي من بذرة الكون، دون أن يعلم بوجود الإله الخفي الأسمى منه..
وبعد أن خلق العالم المادي، خلق الإنسان، ثم اختار شعبا خاصا له أراد له أن يخضع بقية أمم الأرض، ولكن الاب ضابط الكل أرسل المسيح (اللوغوس/الكلمة) لتخليص هذه الأمم..