[التعاليم السرية لكافة العصور][حياة وتعاليم تحوت هرمس مثلّث العظمة]

Lost|pages

حارس المخطوطات
طاقم الإدارة
المشاركات
2,086
مستوى التفاعل
6,324
حياة وتعاليم تحوت هرمس مثلّث العظمة
The Life and Teachings of Thoth Hermes Trismegistus

ترجمة: أمير الخيال - مكتبة ألفا العلمية - أحد المشاركين في ترجمة التعاليم السرية لكافة العصور بعد الإستئذان منه لنقل الترجمة هنا.


دوّى الرعد ولمع البرق, وتشقق ستار المعبد من أعلاه إلى أسفله. فقام المؤسِس الجليل, وعليه جلباب مخضوب بالأزرق والذهبي, ثم رفع ببطء صولجانه المرصّع بالجواهر وأشار به نحو الظلمة التي كشف عنها تشقق الستار الحريري وقال: "أبصر نبراس مصر !". حدّق المنتسب في ثوبه الأبيض الخالص إلى السواد المطبق المؤطّر بين عمودين عظيمين لهما رأسين كزهرة اللوتس, كان الستار معلق بينهما. وبينما هو يشاهد ما يحدث, ظهر سديم مضيء ثم تفرّق في الجو حتى صار الهواء كتلة من الجسيمات المضيئة. وريثما كان المنتسب الجديد يتفحّص السحابة المتلألئة بحثاً عن شيء ملموس كان وجهه مناراً بوهج خافت. تحدث المؤسِس مرة أخرى وقال: "هذا النور الذي تراه هو منبع النورانيّة السريّة التي يحظى بها محفل الأسرار Mysteries. لا أحد يعلم مصدره ما عدا ’سيد النور’ Master of the Light. أنظر إليه !". فجأة, ظهرت عبر الضباب اللامع هيئة بشرية يحيط بها بريق مخضرّ وامض. أخفض المؤسِس صولجانه وأحْنَى رأسه, ثم وضع يده بمحاذاة صدره في تحية متواضعة. تراجع المنتسب الجديد وراءه في رهبة مما رأى, وأعمى بصره قليلاً سناء الهيئة التي تجلّت له. واتت الشاب الشجاعة ليحدّق مجدداً إلى الكيان السماوي. كانت صورة ذلك الكيان الذي تجلّى أمامه أكبر بكثير من أن تكون هيئة إنسان فانٍ. كان جسده يبدو شفافاً بعض الشيء بحيث يمكن رؤية قلبه ينبض ودماغه يتوهّج. وبينما كان المنتسب ينظر إليه, تحوّل قلبه إلى منجل ودماغه إلى زمرّدة لامعه. كان هذا الكيان الغامض يحمل في يده عصا مجنّحة يلتف حولها ثعابين (تسمى "صولجان هرمس" أو "القادوسيوس" Caduceus وهي شعار الطِبّ والأطبَّاء). رفع المؤسِس المسنّ صولجانه وصرخ بأعلى صوته قائلاً: "يحيا تحوت هرمس, العظيم ثلاثاً؛ يحيا أمير البشر؛ يحيا الذي وقف على رأس تايفون Typhon ! (وحش ذو مائة رأس حسب الأساطير الإغريقية)". في اللحظة نفسها ظهر تنين متوهج يتلوّى, وحش بشع, هجين بين ثعبان وتمساح وخنزير. كانت تسيل من فمه وخياشيمه صحائف من نارٍ ملتهبة وأصواته المرعبة تتردد في أنحاء القاعات المقبَّبة. فجأة ضرب هرمس Hermes المخلوق الزاحف الجائر بالعصا الملتفّة بالثعابين فسقط التنين على جانبه بعدما سُمعت صرخته المزمجرة, وصارت النيران التي تنتشر حوله تخمد شيئاً فشيئاً. وضع هرمس رجله على جمجمة تايفون المدحور. وفي اللحظة التي تليها, وفي موقفٍ عظيمٍ صعب جعل المنتسب الجديد يترنّح مذهولاً إلى الوراء متكئاً على أحد الأعمدة, عبر هرمس الخالد خلال القاعة وتلاشى إلى العدم بينما تلاحقه نثار من سديم مُخضَوضِر.



فرضيات تتعلق بهويّة "هرمس"
Suppositions Concerning The Identity of Hermes

لقد أكّد الفيلسوف الأفلاطوني "إيامبليكوس" Iamblichus بأن هرمس Hermes كان قد ألّف عشرين ألف كتاب؛ وزاد المؤرخ المصري "مانيثو" Manetho (كان كاهناً في عهد الملك بطليموس الثاني "حوالي 280.ق.م") على هذا العدد حتى وصل إلى أكثر من ستة وثلاثين ألف كتاب (راجع مؤلفات جيمس غاردنر James Gardner). من الواضح أن أعداداً كبيرة كهذه عندما تُنسب إلى شخص واحد, ورغم أنه قد غلبت عليه بعض المزايا الإلهية, إلا أنه يعجز منطقياً عن إنجاز مثل هذا العمل الهائل بمفرده. من بين الفنون والمعارف التي تم التأكيد بأن هرمس قد أباح بها وأظهرها للبشرية كانت الطب Medicine, الكيمياء Chemistry, القانون Law, القوسية Arc (لم أستطع العثور على أيّ مرجع يخص هذا العلم ولكن أعتقد أن "بالمر" يشير إلى علم الفلك), علم التنجيم Astrology, الموسيقى Music, علم البلاغة Rhetoric, السحر Magic, الفلسفة Philosophy, الجغرافيا Geography, الرياضيات Mathematics (خصوصاً الهندسة Geometry), وفن الخطابة Oratory. كان اليونانيون قديماً يشهدون بالمثل لــ"أورفيوس" Orpheus (وهو كاتب وموسيقي أسطوري إغريقي ونبي في الديانة اليونانية القديمة).

في كتابه "سيرة تاريخية قديمة" Biographia Antiqua, يصف "فرانسيس باريت" Francis Barrett هرمس قائلاً: "إذا كان الله قد تجسّد فعلياً بهيئة إنسان, فلم يكن ذلك سوى بشخصه, وتبرهن على ذلك كتبه وعمله الذي بعنوان "البيماندر" Pymander (يحتوي على الكثير من المفاهيم الهرمسية الأساسية, بما فيها الحكمة المقدّسة وأسرار الكون التي كُشفت أمام هرمس). وقد انتشرت بذور أفكاره وعلمه المقدّس في كل مكان وعبر كل الأجيال, وأثبت من خلال روعتها وجلالتها بأنه ليس شخصية مقدّسة فحسب بل فيلسوف أصيل أيضاً, مستلهماً حكمته من الله وجهات سماوية أخرى, وليس من الإنسان".

إلمامه الواسع ومعرفته التجاوزية Transcendent رفعت من مرتبة هرمس وجعلته في مصاف الكثير من الحكماء والأنبياء الأوائل. في كتابه "الميثولوجيا القديمة" Ancient Mythology, كتب "برايانت" Bryant قائلاً: "ذكرتُ سابقاً بأن قدموس Cadmus (في الأساطير الإغريقية هو ابن أجينور ملك صيدا الفينيقي وشقيق أوروبا) هو ذاته الإله المصري تحوت Thoth؛ حيث من الواضح والجلي بأنه هرمس ذاته, خصوصاً عبر اختراع الأحرف الأبجدية التي نُسبت إليه". ويعتقد الباحثون بأن هرمس هو ذاته "أنوخ" أو "أنوش" Enoch الوارد في النصوص اليهودية, والذي يصفه "كينيالي" Kenealy بأنه: "ثاني رسل الله".

عند ترجمة Enoch من الإسم الأصلي في العبرية (أنوش) يصبح (أنس) في العربية, أو (أنس الله) كما ورد في سفر الخروج بالتوراة. في الإسلام يعتبره البعض هو النبي "إدريس" نفسه الذي يعتبر من الأنبياء الذين علّموا البشرية الكثير من أعمال التطور والحضارة. ولقّب بـ"إدريس" لكثرة دراسته للعلوم. كما يذكر في الإسلام أنه صاحب صحائف المعرفة وأنه زار الجنة ورُفع إليها. بحسب "تاريخ الطبري" و"مرج الذهب"، فإن (إدريس) المذكور في القرآن هو نفسه (أنس) التوراتي. ذكر "أنس" في سفر التكوين على أنه سابع من عشرة آباء قبل الطوفان. وبخلاف بقية آباء ما قبل الطوفان الذين عاشوا قروناً، لم يذكر عمر "أنس" بل قيل إن الله رفعه من دون شرح مستفيض إلا أن "الله أخذه ولم يعد". في ترجمة القرن الثالث اليونانية للتوراة، المعروفة بالسبعونية، ترجمت "أخذه الله" المذكورة في سفر التكوين إلى "نقله الله" من مكان إلى أخر. ويقال بأنه هو أول من دعا اسم الرب ومنحه الله معرفة الأكوان ومسير الكواكب.

وقد دخل هرمس في الميثولوجيا الإغريقية, وأصبح لاحقاً "ميركور" Mercury (عطارد) عند اللاتينيين. لقد بجّلوه عبر تمثيله بالكوكب عطارد لأنه الأقرب إلى الشمس. من بين كل المخلوقات اختاروا هرمس ليجعلوه الأقرب إلى الله, فأصبح معروف برسول الآلهة.

في الرسومات المصرية القديمة, كان يُصوّر تحوت Thoth وهو يحمل لوح كتابة شمعي ويشغل منصب المدوّن خلال إشرافه على تسجيل نتيجة ميزان أرواح الموتى فيقاعة أوزيريس Hall of Osiris للمحاكمة, وهذه إحدى الشعائر الرمزية التي لها دلالات سرّية عظيمة. إن لهرمس أهمية عظيمة بالنسبة للفقهاء الماسونيين Masonic Scholars, لأنه يُعتبر المبتكر الأول لطقوس الإنتساب الماسونية, فهذه الشعائر الخاصة اقتُبست من المحافل السرية Mysteries التي أسّسها هرمس. جميع الرموز الماسونية تقريباً تعتبر ذات طابع هرمسي Hermetic.

تحوت أو توت (إله الحكمة) عند الفراعنة. يعتبر من أهم الآلهة المصرية القديمة، ويُصور برأس طائر أبو منجل Ibis. في وقتٍ لاحق أعاد اليونانيون تسميته بـ(أرميس). كما أن العرب أعادوا تسميته بـ(هرمس) ولقب بإسم المعظّم ثلاث مرات, وهو عند المصريين (هرمس الهرامسة). يعزي إليه قدماء المصريين بأنه صاحب كل العلوم والأعمال، والديانة، والفلسفة والسحر. واعتبره الإغريق مخترع علم الفلك والأعداد والتنجيم، والرياضيات، وقياس الأرض، والطب وعلم الزراعة، والطقوس الدينية، والكتابة. في علم الأساطير المصرية لعب تحوت العديد من الأدوار الحيوية والبارزة, فلقد كان إلهاً للسحر والكتابة والأدب والعلم كما أنه اشترك في حساب الموتى. وكان يمتلك قدرات سحرية فائقة، حتى أن المصريين قد اعتقدوا بأن "كتاب تحوت" The Book of Thoth يمكنه أن يحوّل قارئه إلى أعظم ساحر متمكن في العالم. (سيتم الحديث عنه لاحقاً في نفس هذا الفصل المترجم من الكتاب)

لقد درس فيثاغورس Pythagoras مع المصريين ومنهم اكتسب معرفته بالمجسمات الهندسية الرمزية (المعروفة عموماً بالمجسمات الأفلاطونية Platonic solids). كما يعود الفضل إلى هرمس بإصلاح منظومة الروزنامة, حيث هو الذي زاد عدد أيام السنة من 360 إلى 365 يوم, وهذا النظام التقويمي لازال قائماً حتى اليوم. وقد مُنح لقب "ثلاثي العظمة" Thrice Greatest لأنه كان يُعتبر الأعظم بين كل الفلاسفة, الأعظم بين كل الكهنة, الأعظم بين كل الملوك. ومن الجدير بالذكر أن القصيدة الأخيرة لشاعر أميركا المحبوب, هنري وادسورث لونغفيلو Henry Wadsworth Longfellow, كانت قصيدة غنائية في مآثر هرمس. (See Chambers' Encyclopأ¦dia).

تعددت وجهات النظر حول سبب تسميته بـ Trismegistus "ثلاثي العظمة" أو "مثلّث العظمة", وقيل لأنه كان يعرف الأجزاء الثلاثة من حكمة الكون كله؛ وهي الخيمياء Alchemy, التنجيم Astrology والسيمياء Theurgy. يؤمن الهرمسيون بثلاث أقسام للحكمة: الخيمياء؛ تبحث في أمور تتعلق بتحويل المواد الرخيصة مثل الرصاص إلى معدن نفيس مثل الذهب. وتذهب إلى مستوى بحث أمور التحويل الروحي للحياة، والمادي عن طريق دراسة الولادة والموت والعودة إلى الحياة. التنجيم؛ زعم هرمس أنه تعلم التنجيم على يدي زرادشت Zoroaster (نبي فارسي). فهم يؤمنون أن لحركة الكواكب معاني وتأثيرات تتعدى المجال الفيزيائي إذ أنها تمثل فكر الله لذا لها تأثير على الأرض لكنها لا تجبرنا على اتخاذ القرارات. والحكيم هو من يفهم هذه التأثيرات ويتعامل معها بشكل بنّاء. السيمياء؛ مصطلح يعني "علم وفن العمل الإلهي" وهي مجال دراسة الطقوس والتقاليد التي تمارس من أجل التواصل مع الماورائيات أو مع وجوديات لا يمكن استيعابها في العالم المادي، من أجل الإتحاد معها أو تحقيق الكمال الذاتي. يخطئ البعض بربطها بالسحر وهو خطأ شائع. وعند اللاتينيين كان يعرف هرمس بـ Mercurius ter Maximus؛ لأنه كان يصف الله بثلاث صفات ذاتية هي الوجود والحكمة والحياة.

 
التعديل الأخير:
البقايا المشوّهة من التعاليم الهرمسية
The Mutilated Hermetic Fragments

بخصوص موضوع الكتب الهرمسية, كتب "جيمز كامبل براون" James Campbell Brown في كتابه "تاريخ الكيمياء" History of Chemistry يقول: "بعد تجاوز فترة الكلدانيين وعصور المصريين القدامى, وحيث أننا لا نملك سوى بقايا متفرّقة وليس سجلات مفصّلة تتحدث عنهم, بالتالي لم يصلنا من تلك الفترة أيّ أسماء لفلاسفة أو كيميائيين بارزين, ندخل الآن إلى فترة تاريخية شهدت كتابة الكتب, حيث لم تكتب في البداية على رقّ البرشمان (مخطوطات رقية نفيسة) أو القرطاس, وإنما على ورق البردي. سلسلة طويلة من الكتب المصرية القديمة كانت منسوبة إلى هرمس الهرامسة Hermes Trismegistus "ثلاثي العظمة", والذي قد يكون علّامة Savant فعلاً, أو حبر من الأحبار, أو مجرد تشخيص لسلسة متعاقبة من الكتاب والمفكرين. يعتبره البعض بأنه ذاته الإله الإغريقي هرمز Hermes, والإله المصري تحوت Thoth أو توتي Tuti, الذي كان إله القمر, وصوروه في الرسوم القديمة ذو رأس طائر أبو منجل ibis مع قرص وهلال القمر. اعتبره المصريون إله الحكمة, الأحرف الأبجدية, وتأريخ الزمن. كما أنه يحظى باحترام كبير لدى الخيميائيين القدماء بحيث كانت الكتابات المتعلقة بمجال الكيمياء تسمى كتابات هرمسية Hermetic, وعبارة "مغلق هرمسياً" Hermetically Sealed (مغلق بإحكام) لا تزال قيد الإستخدام حتى الآن للدلالة على إغلاق وعاء زجاجي بواسطة الإنصهار على طريقة المعالجين الكيميائيين. نجد نفس الآثار الهرمسية متجذرة في مجال الطب والعلاج, خصوصاً في كتابات "باراسيلسوس" Paracelsus (كيميائي وطبيب ومنجّم وساحر من عصر النهضة), وكذلك آثار واضحة في تقاليد وشعائر الماسونيين الهرمسيين في العصور الوسطى".

بين بقايا الكتابات التي يُعتقد بأنها انحدرت مباشرة من قلم هرمس نجد عملين شهيرين. الأول معروف باسم "لوح الزمرّد" Emerald Table, والثاني هو "البيماندر المقدّس" The Divine Pymander والمعروف عموماً باسم "راعي البشرية" The Shepherd of Men. إحدى المفارقات البارزة المتعلقة بهرمس هي أنه يعتبر من الفلاسفة/الكهنة الوثنيين القلائل الذين لم يتناوله رجال الكنيسة بحقد وكراهية. وبعض أباء الكنيسة قد ذهبوا أبعد من ذلك وأعلنوا أن هرمس استعرض إشارات كثيرة على تمتعه بالذكاء, ولو أنه كان محظوظاً ليولد في زمن أكثر تنوراً ليستفيد من إرشاداتهم لأصبح رجلاً عظيماً بالفعل!.

اللوحة الزمرّدية Emerald Table، أو لوح الياقوت، هي عمل أسطوري ينسب لهرمس ويقال أنه يحتوي على أسرار المادة الحيّة وطرق تحويلها. قدّر الخيميائيون الأوروبيون أهميتها على مستوى عالي, اعتبروها أساس فنونهم في التقاليد الهرمسية. ذكر في اللوحة أن هرمس مثلّث العظمة هو كاتب محتواها. إلا أن أول ذكر لمحتوى اللوحة ظهر باللغة العربية في الحقبة ما بين القرن السادس والثامن الميلادي. هناك مزاعم تقول أنه عمل عربي كُتب ما بين القرنين السادس والثامن بمسمى: "كتاب سرّ الخليقة وصنعة الطبيعة" والذي ينسب إلى بليناس الحكيم والمعروف بـ"أبولينوس التياني", الذي ادعى أنه وجد اللوحة بيد رجل عجوز جالساً على عرش ذهبي في مخبأ تحت تمثال هرمس وبأن نصَّه كُتب في ساحق الزمان. وبعد بليناس، وجدت نسخة من اللوحة في كتاب لــ"جابر بن حيان". أما العمل الثاني بعنوان "البيماندر المقدّس" The Divine Pymander, فهو يحتوي على 17 جزء أو كتاب تشكّل في مجملها عمل واحد. يمكن إيجاد ضمن هذه الأجزاء الكثير من المفاهيم الهرمسية الأساسية, بما فيها الحكمة المقدّسة وأسرار الكون التي كُشفت أمام هرمس, بالإضافة إلى الطريقة التي أسس فيها هرمس مدرسته والآلية الخاصة التي نشر وفقها الحكمة في العالم. (سيتم الحديث عنه لاحقاً في نفس هذا الفصل المترجم من الكتاب)


03700.jpg

هرمس (ميركوريوس) ثلاثي العظمة:
سيد كل الفنون والعلوم, كامل في كل الحِرف, سيد العوالم الثلاثة, كاتب الآلهة, المؤتمن على كتب الحياة, المُبلّغ الأول. اعتبره المصريون القدماء تجسيد فعلي للعقل الكوني. إذا وُجد فعلاً حكيم ومعلّم عظيم باسم هرمس, يستحيل تمييز أوصاف ومزايا هذا الرجل التاريخي عن الكم الهائل من الأوصاف الأسطورية التي وصمت به في محاولةٍ تجعله يتماهى مع المبدأ الكوني للفكر.

كليمندس الإسكندري Clement of Alexandria, وهو واحد من القلائل المؤرّخين للتقاليد والمعارف الوثنية والتي حُفظت كتاباته حتى هذا العصر. في كتابه "البُسُط" Stromata, يوضّح تقريباً كافة المعلومات المعروفة المتعلّقة بكتب هرمس الأصلية البالغ عددها 42 كتاباً ويبيّن الأهمية التي كانت توليها السلطات الدنيوية والروحية لهذه الكتب في مصر. يقول كليمندس واصفاً أحد المواكب الشعائرية الخاصة بهم: "بالنسبة للمصريين فلقد اعتادوا انتهاج فلسفة خاصة بهم, ويظهر ذلك بصورة رئيسية في شعائرهم المقدّسة. في البداية يتقدم المغنّي Singer, يحمل واحدة من رموز الموسيقي. يقولون بأن عليه تعلّم اثنين من كتب هرمس, الأول يحتوي على تراتيل الآلهة والثاني يتضمن القوانين والمبادئ التوجيهية في حياة الملك. بعد المغنّي يتقدّم المُنجّم Astrologer, حاملاً في يده ساعة وسعفة نخيل, رمزيّ علم التنجيم. ويجب أن تكون بحوزته كتب التنجيم الخاصة بهرمس, وهي أربعة كتب دائماً تكون في متناوله. أحدها يتكلم عن ترتيب النجوم الثابتة التي تكون مرئية, والثاني يتحدث عن ظواهر التزامن والسطوع للشمس والقمر, وبقية الكتب تتعلق بمشارق الشمس والقمر. وبعد ذلك يتقدّم الكاتب Scribe المقدّس, مع أجنحة على رأسه, وفي يده كتاب ومسطرة, وفي المكان الذي يكتب فيه يكون هناك حبر وريشه وما يتوجب عليه كتابته. وأنه لابد أن يكون على علم بما يسمى بالكتابة الهيروغليفية, والكوزموغرافيا Cosmography (علم الدراسات الكونية) والجغرافيا, وموقع الشمس والقمر, والكواكب الخمسة, وأيضاً وصف مدينة مصر وخارطة نهر النيل, ووصف لأداوت الكهنة والمكان المخصص لهم, والتدابير التي تخص الشعائر المقدّسة والأغراض المستخدمة فيها. وبعد الكاتب يتقدّم السجّان Stole-keeper, حاملاً معه ذراع العدالة وكأس الإراقة. ويكون مطّلعاً على ما يسمى بـ Pأ¦deutic (أمور متعلقة بالتدريب والتعلّم) و الـ Moschophaltic(القرابين). وهناك أيضاً عشرة كتب تتحدث عن شرف تقديمهم الأعطيات إلى آلهتهم, وتتضمن شرحاً عن العبادات المصرية؛ خاصة فيما يتعلق بالأضحيات, المحصول أو الغلّة الأولى, التراتيل, الصلوات, المواكب الشعائرية, المهرجانات والأعياد وما شابهها. وفي نهاية المسيرة يأتي النبي Prophet, يحمل بين ذراعيه إناء ماء مفتوح, ثم يلحق به أولئك المسؤولون عن حمل وتوزيع أرغفة الخبز. وبما أنه يشغل منصب والي المعبد, فهو يتعلم عشرة كتب تسمى الهيراطيقية Hieratic (الكتابة الكهنوتية)؛ وتحتوي على كل ما يتعلق بـالشرائع والآلهة وتدريب الكهنة. وعند المصريين يعتبر النبي هو المسؤول عن توزيع العائدات أو المداخيل. إذن هناك 42 كتاباً تخص هرمس ضرورية ولا غنى عنها؛ ستة وثلاثون كتاباً منها تحتوي على الفلسفة الكاملة للمصريين يتعلمها الشخصيات البارزة المذكورة آنفاً؛ والستة المتبقية تعتبر ذات مجال طبي, ويتعلمها الـ Pastophoroi (حاملي الصور) وهم يشرفون على علاج الأمراض وبنية الجسم, الأدوات الطبية, الأدوية, علاج النظر وأمراض النساء".

إحدى أعظم المآسي في عالم الفلسفة تمثّلت بضياع كل الكتب الهرمسية الـ 42 كتاباً الآنفة الذكر. لقد اختفت خلال حرق الإسكندرية في عهد الرومان وفي وقت لاحق على يد المسيحيين, وبالإضافة إلى ما تعرضت له مكتبات البلاد في الحقب التاريخية اللاحقة خلال الغزوات والإنقلابات والتحولات الإجتماعية الهائلة التي عمّت البلاد. كان المسيطرون الجدد, الدينيون والسياسيون معاً, مقتنعون تماماً بأنهم لا يستطيعوا إخضاع المصريين دون إحداث هذه المجازر الفكرية على نطاق واسع وقلع تقاليدهم المعرفية والعلمية من جذورها. الكتب الهرمسية التي نجت من نيران المكتبات هُرّبت ودفنت في الصحراء ومواقعها معروفة جيداً لدي عدد قليل من الأعضاء المنتسبين في مدارس سرّية مختلفة.
 
كتاب تحوت
The Book of Thoth
بينما لازال هرمس يعيش على هذه الأرض مع البشر, أودع "كتاب تحوت" المقدّس لمجموعة من خلفائه المختارين. احتوي هذا العمل على الإجراءات السرّية التي وجب عبرها تحقيق مهمة "إعادة إصلاح البشرية". كما يخدم كمفتاح أساسي للدخول عبره إلى كتاباته الأخرى. لا أحد يستطيع الجزم بما يحتويه هذا الكتاب غير أن صفحاته كانت مكسوة بصور ورموز هيروغليفية غريبة, والتي منحت مستخدميه المطّلعين قوة غير محدودة على الأرواح العلوية والسفلية (قوى كونية). عندما تُحفّز أو تُنشّط مناطق معينة في الدماغ بواسطة الإجراءات السرية لتعاليم محفل الأسرار Mysteries, يتمدد وعي الإنسان ويتضخّم, فيستطيع بعدها أن يرى الخالدين Immortals ويدخل إلى حضرة الآلهة الأسمى. يصف "كتاب تحوت" The Book of Thoth الوسيلة التي تمكن الفرد من تحقيق هذا التحفيز الدماغي. وهذا حقاً يجعل الكتاب يستحق لقب "مفتاح الخلود" "Key to Immortality".

وفقاً للأسطورة, وضِع "كتاب تحوت" في صندوق ذهبي في الحرم الداخلي للمعبد. ولم يوجد سوى مفتاح واحد لهذا الصندوق, وكان بحوزة "سيد محفل الأسرار" "Master of the Mysteries", أعلى الأعضاء المنتسبين رتبة في "الأسرار الهرمسية" Hermetic Arcanum. وهو وحده يعلم ما كان مكتوباً في هذا الكتاب السرّي. لقد فقد العالم القديم "كتاب تحوت" بعد زوال "محفل الأسرار" Mysteries, ولكن أعضاءه المخلصين حملوه داخل تابوت مقدّس إلى بلاد أخرى. لازال الكتاب موجود اليوم ولازال مستمراً في إرشاد المريدين في هذا العصر ليتمكنوا من المثول في حضرة الخالدين. لا يمكن تقديم أيّ معلومة للعالم أكثر من ذلك في الوقت الحالي, لكن وجب العلم بأن الخلافة الرسولية المتسلسلة من عهد الكاهن الأوّل الذي انتسب على يد هرمس شخصياً مستمرّة دون توقف حتى يومنا هذا. وبالنسبة لأولئك المميزون المناسبون لخدمة الخالدين Immortals, فيمكنهم أن يجدوا هذا المخطوط النفيس الذي لا يُقدر بثمن إذا اجتهدوا وبحثوا بصدق وإصرار وبلا كلل أو ملل.

03800.jpg
"تحوت", ذو رأس أبو منجل:
أحد المزاعم تقول بأن الإله المسمى عن المصريين القدماء بـ"تحوت" Thoth هو في الأصل هرمس بالفعل, ولكن تم الخلط بين الشخصيتين معاً وأصبح من المستحيل الفصل بينهما الآن. كان "تحوت" يلقّب بــ"سيد الكتب السماوية" و"كاتب زمرة الآلهة". كان يُصوّر بشكل عام على هيئة جسد رجل برأس طائر أبو منجل. لم يتم الكشف عن المعنى الرمزي الدقيق لهذا الطائر. ولكن بعد تحليل دقيق للشكل الغريب لطائر أبو منجل - وخاصة رأسه ومنقاره - فقد يقدم دليلاً توضيحياً عليه.

لقد تم التأكد بأن "كتاب تحوت" هو في الحقيقة ورق "التاروت" Tarot الغامض لدى البوهيميين Bohemians (وصف للمهاجرين الغجر الذين جاؤوا من رومانيا مارّين بمنطقة بوهيميا والتي تعرف الآن بجمهورية التشيك) الذين يستخدمونه للتنبؤ بالمستقبل. وهو عبارة عن مجموعة صور رمزية غريبة تغطي 78 ورقة وهي بحوزة الغجر Gypsies منذ فترة طردهم من معبدهم القديم "سيرابيوم" Serapeum في مصر (حسب التاريخ المتداول في الحلقات السرّية Secret Histories, كان الغجر في الأصل يعتبرون كهنة مصريين). يوجد هناك في العالم الآن عدد من المدارس السرّية المختلفة تسمح بانتساب أعضاء جدد إلى محافلها Mysteries, لكن رغم اختلاف طقوس الإنتساب إلا أنها جميعاً تشعل نيران مذابحها من شعلة هرمس المتوهجة. في "كتاب تحوت", بيّن هرمس "الطريق الوحيد" للبشرية, وعبر العصور تمكن حكماء كل أمة وكل عقيدة أن يدركوا الخلود بفضل هذا "الطريق" الذي أنشأه هرمس في غمرة الظلام بهدف خلاص الإنسانية.
 
"بويماندريس" و"رؤيا هرمس"
Poimandres, The Vision of Hermes

يعتبر "البيماندر المقدّس" The Divine Pymander لمؤلفه (هرمس ميركوريوس ثلاثي العظمة) واحداً من أقدم الكتابات الهرمسية الموجودة في عصرنا الحالي. ورغم أنه لم يعد بصيغته الأصلية, بعد أن جرى تعديله خلال القرون الأولى من الحقبة المسيحية Christian Era وتُرجم بطريقة غير صحيحة منذ ذلك الحين, إلا أن هذا العمل يحتوي بلا شك على العديد من المفاهيم الأصيلة في التقاليد الهرمسية Hermetic Cultus. يتألف "البيماندر المقدّس" من سبعة عشرة مخطوطة (أو كتب) مجزأة تم جمعها معاً وطُرحت في عمل واحد. الكتاب الثاني من هذا العمل يسمى "بويماندريس" Poimandres, أو "الرؤيا" The Vision, ويُعتقد بأنه يصف الكيفية التي كُشفت من خلالها الحكمة المقدّسة أمام هرمس لأول مرة. وعلى إثر تلقيه هذا الوحي بدأ هرمس خدمته بتدريس جميع أولئك الذين أصغوا آذنهم لتدبّر أسرار الكون المحجوب تماماً كما قد أوحيت له.

يعتبر كتاب "الرؤيا" The Vision هو الأكثر شهرة بين جميع بقايا المخطوطات الهرمسية, ويضم شرحاً عن النظريات الهرمسية التي تخص نشأة الكون Cosmogony والعلوم السرية المتعلقة بالتقاليد المصرية وكشف خبايا الروح الإنسانية. في السابق كان الكتاب يسمى خطأ بـ "نشأة أخنوخ" The Genesis of Enoch, ولكن تم تصحيح هذا الخطأ في الوقت الحالي. أثناء التحضير للقيام بتفسير الفلسفة الرمزية المخبأة بين سطور كتاب "الرؤيا" لصاحبه هرمس؛ تمت الإستعانة بهذه المراجع: "البيماندر المقدّس" لصاحبه هرمس ميركوريوس ثلاثي العظمة (لندن, 1650م), الذي تُرجم من العربية واليونانية على يد الدكتور إيفرارد Dr. Everard. "المتون الهرمسية" Hermetica (أكسفورد, 1924م), الذي حرره والتر سكوت Walter Scott. "هرمس, وأسرار مصر"Hermes, The Mysteries of Egypt (فيلادلفيا, 1925م), للكاتب إدوارد شور Edouard Schure. "هرمس مثلّث العظمة"The Thrice-Greatest Hermes (لندن, 1906م), للكاتب جورج روبرت ستو ميد G. R. S. Mead. إضافة إلى المادة المتضمنة في الكتب المذكورة آنفاً فقد ذكرتُ بعض الشروحات والتعليقات استناداً على الفلسفة الباطنية للمصريين القدماء, بالإضافة لمعلومات مسهبة مشتقة جزئياً من البقايا الهرمسية الأخرى, وأيضاً من التعاليم السرية للعلوم الهرمسية. وحرصاً على الوضوح, فقد تم تفضيل اختيار شكل السرد على صورة النمط الحواري الأصلي, واستبدلت الكلمات القديمة التي عفا عليها الزمن بأخرى مقاربه لها تستخدم في الوقت الحالي.

سيقوم المؤلف (مانلي هول) الآن بسرد وشرح ما ذكر في كتاب "الرؤيا" بعد الإستعانة بالمراجع السابقة والقيام بتعديل بعض المفاهيم والمصطلحات القديمة لكي تكون أكثر وضوحاً وتفصيلاً. وسأعمل بكل حرص على نقل كل تلك المصطلحات بشكل مقارب جداً لترجمتها الحرفية؛ وذلك لكي لا تفسد المعاني الباطنية التي تحملها في طياتها.

بينما كان هرمس يجول في أحد الأماكن الصخرية والمقفرة, قرر أن يفني نفسه بممارسة التأمّل والصلاة. وباتباعه التعليمات السرية للمعبد Temple فإنه بذلك قد حرر وعيه الأسمى تدريجياً من عبودية الحواس الجسدية. وبالتالي أعتق طبيعته السماوية التي كَشفت له أسرار المجالات التجاوزية Transcendental Spheres. حينها رأى كائناً رهيباً ومذهلاً, كان ذلك التنين العظيم The Great Dragon, باسطاً أجنحته في الأفق والنور يشعّ من جسده في جميع الإتجاهات (يعتبر التنين تشخيصاً أو تجسيداً لمفهوم "الحياة الكونية" Universal Life في التعاليم السرية Mysteries). نادى التنين العظيم على هرمس باسمه, وسأله عن سبب تأمّله لمعرفة أسرار العالم World Mystery. فزِع هرمس من المنظر, وخَرّ جاثماً أمام التنين يناشده أن يكشف له هويته. أجابه المخلوق العظيم بأنه "بويماندريس" Poimandres, عقل الكون The Mind of the Universe, الذكاء الخلّاقThe Creative Intelligence, الإمبراطور المطلقThe Absolute Emperor (يعرّف الكاتب شور Schure بأن "بويماندريس" يمثّل الإله المصري "أوزريس"). بعدها توسّل هرمس إلى "بويماندريس" بأن يفصح له عن طبيعة الكون وخِلْقة الآلهة. أذعن له التنين ونزل عند رغبته, وأمر "مثلّث العظمة" بأن يحتفظ بصورته في ذهنه.

تغير شكل "بويماندريس" في لمح البصر. وحيث وقف كان يوجد إشعاعٌ مهيب ونابض. كان ذلك النور يمثّل الطبيعة الروحية للتنين العظيم. "رُفِع" هرمس وسط هذا الضياء الإلهي Divine Effulgence وبعدها تلاشى العالم المادي من وعيه. عقِب ذلك ما لبثت أن هبطت ظلمة عظيمة وتوسّعت حتى غشيت النور كله ... واضطرب كل شيء. التفّت حول هرمس مادة مائية غامضة ثم تحوّلت بعدها إلى بخار يشبه الدخان. امتلأ الجو بزفراتٍ وآهاتٍ عييَّة والتي بدا أن مصدرها النور الذي غشيته الظلمة. قال لهرمس أن النور هو صورة عن الكون الروحي وتلك الظلمة التي التفّت عليه كالدوامة تمثّل المحتوى الماديّ.

ومن داخل النور المحصور جاءت كلمة مقدّسة Holy Word واتخذت لها مكاناً فوق الماء المتبخّر. تلك الكلمة - صوت النور The Voice of the Light - ارتفعت من بين الظلمة مثل عمود عظيم وتبعها النار والهواء, ولكن الأرض والمياه بقيتا مستقرّتين في الأسفل. وهكذا انفصل ماء النور عن ماء الظلمة, ومن ماء النور تشكّلت العوالم العلوية ومن ماء الظلمة تشكّلت العوالم السفلية. بعد ذلك امتزجت الأرض بالماء وأصبحتا متلازمتين معاً, وتلك الكلمة الروحية Spiritual Word التي تسمى (سبب)Reason ترفّ على سطحهما مسببة اضطراباً لا نهاية له.

يبدو أن هناك تشابه عجيب جداً بين هذا الوصف وما ذكر في بداية "سفر التكوين": (في البدء خلق الله السموات والارض. وكانت الارض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة.)

بعد ذلك سُمع صوت "بويماندريس" مرة أخرى ولكنه لم يكشف عن صورته وقال: "أنا ربك, أنا النور والعقل الذي كنت قبل أن تُفصل المادة عن الروح, والظلمة عن النور. وأمّا الكلمة التي ظهرت كأنها عمود من لهب يخرج من الظلمة هي "ابن الله" Son of God, المولود من معجزة أسرار العقل. واسم تلك الكلمة هو (سبب) Reason. الـ(سبب) وليد الفكر Thought, والـ(سبب) هو من سيفصل النور عن الظلمة ويقيم الحقيقة Truth وسط الماء. افهم يا "هرمس" وتأمل عميقاً في تلك الأسرار. إن الذي يرى فيك ويسمع ليس من الأرض, بل هو كلمة الله Word of God المتجسّدة. لذلك يقال بأن النور الإلهي يسكن في غمرة الظلمة البشرية, والجهل لا يستطيع أن يفصل بينهما. اتحاد الكلمة والعقل ينتج ذلك السرّ الذي يسمى (حياة). مثلما تنقسم الظلمة على نفسها خارجاً عنك, كذلك تنقسم بالمثل في داخلك. النور والنار الذي يرقى منهما هو الإنسان السماوي يعرج في درب الكلمة, وأمّا من فشل في العروج هو الإنسان الفاني؛ والذي قد لا يصير جزءاً من الخلود. تدبّر ملياً في العقل وأسراره, فهناك يكمن سرّ الخلود".

أظهر التنين شكله مجدداً لهرمس, وظل كلامها يحدّقان بثبات إلى بعضهما البعض, وجهاً لوجه, حتى ارتعش هرمس أمام أنظار "بويماندريس". وبكلمة من التنين فُتحت السموات وظهرت قوى نوريّة Light Powers لا تعد ولا تحصى, تصاعدت عبر الكون Cosmos على أجنحة تخفق ناراً. فنظر هرمس إلى أرواح النجوم, الأجرام السماوية التي تحكم الكون, وكل تلك القوى التي سطعت من وهج النار الواحدة One Fire (سناء العقل الحاكم Sovereign Mind). أدرك هرمس بأن المشهد الذي رآه قد كُشف له لأن "بويماندريس" نطق بـ(كلمة) Word. والكلمة كانت (سبب) Reason, وبواسطة سبب الكلمة The Reason of the Word تجلّت الأشياء الخفية. واصل العقل السماوي Divine Mind - التنين - خطابه قائلاً:

"قبل تشكّل الكون المرئي كانت صورته المقَولَبة قد صيغت مسبقاً. تلك الصورة المقَولَبة كانت تسمى النموذج الأصلي Archetype, وهذا النموذج الأصلي كان يقبع فيالعقل الأسمى Supreme Mind قبل فترة طويلة من بداية عملية الخلق. وهو ينظر إلى النماذج الأصلية, أصبح العقل الأسمى مفتوناً بفكرته؛ لهذا استعمل الكلمة بمثابة مطرقة جبّارة حفرت كهوفاً في الفضاء البدائي (الأزليّ) وصاغت الشكل الكرويّ spheres في القالب الأصلي Archetypal, وفي نفس الوقت زرعت في الهيئات المستحدَثة الجديدة بذور الكائنات الحية. وبالنسبة للظلمة القابعة في الأسفل والتي تلقّت أيضاً مطرقة الكلمة, فقد شُكّلت على هيئة كون منظّم ومتساوق. انفصلت العناصر على هيئة طبقات وكل طبقة تمخّض عنها مخلوقات حية. الكائن الأسمى - العقل The Mind - الذكوري والأنثوي بنفس الوقت, استدعى الكلمة التي كانت معلّقة بين النور والظلمة ثم اعطيت إلى عقل Mind آخر يسمى (الصانع) Workman, سيد البناء Master-Builder, أو منشئ الأشياء Maker of Things.

"بهذه الطريقة تحقق ذلك يا هرمس: رفَّت الكلمة وكأنها نسمة عبر الفضاء محدثة النار Fire بسبب الإحتكاك الناشئ من حركتها. ولهذا تسمى النار بــ "ابن النضال" Son of Striving. تنقّل (الصانع) Workman على هيئة زوبعة أو ريح شديدة عبر الكون, مما تسبب في اهتزاز المواد وتوهّجها نتيجة احتكاكه معها. وهكذا جسّد "ابن النضال"سبعة سلاطين Seven Governors, أرواح الكواكب, الذين أحاطت مداراتهم بالعالم. ولقد عمل السلاطين السبعة على تسيير العالم من خلال القوة الغامضة التي تدعى (القدر) Destiny مُنحت لهم من قِبل (الصانع الناري) Fiery Workman. عندما قام العقل الثاني (الصانع) بتنظيم الفوضى, ارتفعت كلمة الله Word of God مباشرة من سجنها المادي تاركة العناصر من دون (سبب) Reason ثم ضمّت نفسها إلى جوهر (الصانع الناري). بعدها قام العقل الثاني, جنباً إلى جنب مع الكلمة التي رُفِعت, بتكريس نفسه في غمرة الكون ثم دَوّر عجلات القوى السماوية Celestial Powers. ويبقى ذلك مستمراً من بداية أزلية إلى نهاية أبدية, فالبداية والنهاية تقبعان في ذات المكان ولهما ذات الحال.

"بعدها تمخّض عن العناصر المنحدرة وغير العاقلة تلك المخلوقات التي لا تملك سبباً Reason. لم تُمنح المادة (سبب) Reason, لأن الـ(سبب) قد صعد خارجاً عنها. تولّد من الهواء المخلوقات الطائرة ومن الماء المخلوقات السابحة. وحملت الأرض حيوانات غريبة زاحفة ذات أربعة أقدام, تنانين, عفاريت (جانّ أو مخلوقات من نار) ذات خِلْقة مركّبة, ووحوش بشعة عجيبة. بعدها قام (الرَّب) The Father - العقل الأسمى - جوهر النور والحياة, بخلق وتصويّر الإنسان الكوني Universal Man الجليل على صورته, ليس الإنسان الأرضي وإنما الأنسان السماوي المستقِرّ في نور الله Light of God. لقد أحبَّ العقل الأسمى ذلك الإنسان الذي صوّره ومنحه السيطرة على الخلائق وإتقان الصَنَعات.
 
نود أن نقف هنا لنناقش ثلاثة أمور مهمة وجب تعليلها حتى لا تحدث مفهوماً خاطئاً عن بعض المصطلحات التي ذكرت وسيتم ذكرها حتى نهاية هذه "الرؤيا". أولاً: كلمةFather بالإنجليزية تعني حرفياً في اللغة العربية (الأب), ولكن تمت ترجمتها بـ(الرَّب) لتحري المعنى الدقيق حسب سياق الحديث هنا. وكلمة (أبّ) تعني في اللغة العربية "من كان سبباً في إيجاد الشيء أو إصلاحه" أو المسؤول عن ظهوره وتطوّره, ونفسها كلمة (ربّ) التي تعني "مالك الشيء وصاحبه ومصلحه".

ثانياً: (الإنسان), يشمل هذا المفهوم أو المسمى كل كائن حي مفكّر يملك عقلاً في كافة الوجود. وثالثاً: في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ". والصورة هنا ثابتة لله تعالى، على ما يليق به جلّ وعلا، فصورته صفة من صفاته لا تشبه صفات المخلوقين، كما أن ذاته لا تشبه ذواتهم. وليس المعنى التشبيه والتمثيل، بل الصورة التي لله غير الصورة التي للمخلوق. لا يلزم من أن تكون هذه الصورة مماثلة للإنسان فهناك شيء من الشبه، لكنه ليس على سبيل المماثلة.


"الإنسان, ورغبة منه في العمل والإجتهاد, نقل مأواه السماوي إلى دائرة الخلق وراقب أعمال شقيقه - العقل الثاني - الذي كان جالساً على هالة النار The Ring of the Fire. وبعد أن رأى إنجازات (الصانع الناري), أراد صناعة الأشياء مثله أيضاً, فأعطاه ربّه الإذن بذلك. تشاطر الإنسان القوى مع السلاطين السبعة, الذين استبشروا به وقام كل واحدٍ منهم بمنحه حظاً من طبيعته وقوته.

"تاق الإنسان الجالس
على النار الأبدية Eternal Fire إلى اختراق محيط الدوائر وفهم أسرار ذاته. وبعد أن بات يمتلك كافة القوى, قام بالنزول إلى مستوى أدنى من مرتبته واسترق النظر عبر التوافقيات Harmonies السبعة ثم اخترق صلابة الدوائر وجعل نفسه جليّة لطبيعةٍ Nature مُتَراميَة بالأسفل. بحث الإنسان في الأعماق, وكان فرحاً, لأنه رأى ظلاً على الأرض وشبيهاً له منعكساً على صفحة الماء, غير أن ذانك الظل والشبيه ليسا سوى مجرد انعكاس لنفسه. وقع الإنسان في حب ظله ورغب أن يهبط إليه. وتوافقاً مع رغبته, اتحد الكائن العاقل مع الشكل أو الصورة غير العاقلة.

"الطبيعة Nature, وهي تراقب انحدار الإنسان ونزوله, غلّفت نفسها حول ذلك الذي أحبَّته, وأصبح الإثنان مندمجان معاً. ولهذا السبب يعتبر الإنسان الأرضي مخلوق مركَّب Composite (اجتماع شيئين أو أكثر لتكوين صورة أو هيئة واحدة). بداخله يوجد الإنسان السماوي Sky Man, الجميل والخالد؛ وفي خارجه هناك الطبيعة Nature, الفانية والقابلة للتلف. وهكذا, حصلت المعاناة نتيجة وقوع الإنسان الخالد في حب ظله والتخلّي عن الواقع Reality ليسكن في ظلمات الوهم. يعتبر الإنسان خالداً كونه يمتلك قوة السلاطين السبعة, وأيضاً الحياة والنور والكلمة. ولكنه بنفس الوقت يعتبر فانياً لأنه محكوم بسيطرة هالات السلاطين Rings of the Governors عليه, وأيضاً محكوم بالقدر أو المصير.

"يجدر بالذكر أن الإنسان الخالد Immortal Man يعتبر خنثى Hermaphrodite, يجمع بين الذكورة والأنوثة, كما أنه يقظ دائماً وأبداً. لا يغفو ولا ينام, ويخضع لـ(الرَّب) Father الذي هو أيضاً يجمع بين الذكورة والأنوثة, لا تأخذه سِنة ولا نوم, ورقيبٌ قَيّوم. هكذا سرّ بقي محجوباً حتى يومنا هذا, فالطبيعة Nature عندما اندمجت في مصاهرة مع الرجل السماوي Sky Man أنجبت عَجَباً عُجَاب؛ سبعة إنْسِيين, جميعهم ثنائيو الجنس (يجمعون صفات الذكورة والأنوثة), معتدلو القامة, وكل واحد منهم يجسّد قوى السلاطين السبعة. هؤلاء يا هرمس هم الأعراق السبعة, الأجناس السبعة, العجلات السبعة.

"بعد حصول الأمر بتلك المقاربة وولادة الإنْسِيين السبعة, كانت الأرض تعتبر العنصر الأنثوي والماء هو العنصر الذكوري. ومن النار والإيثر Aether تلقّوا أرواحهم, وأنتجت الطبيعة أجسادهم وفقاً لأجناسهم وأشكالهم. لقد تلقى الإنسان الحياة Life والنور Light من التنين العظيم The Great Dragon (يعتبر التنين تشخيصاً للحياة الكونية في التعاليم السرّية), عملت الحياة على إحداث روحه Soul وصاغ النور عقله Mind. وهكذا, في داخل كل تلك المخلوقات المركَّبة يكمن الخلود, وبنفس الوقت لها نصيب من حتمية الفناء. وبقيت على تلك الحال طوال فترة ما, تعيد استنساخ نفسها من نفسها, سواء لكل ذكر أو أنثى. ولكن عند نهاية الفترة انحلّت عقدة القدر Destiny بمشيئة الله وتحرر الوثاق الذي يجمع كافة الأشياء.

"بعد ذلك فُصِلت جميع المخلوقات, بما فيها الإنسان الذي كان يعتبر ثنائي الجنس Hermaphroditical, حيث تم فصل الذكور عن الإناث وفقاً لما يمليه السبب Reason.

"ثم خاطب الله الكلمة المقدّسة بداخل روح كل شيء, قائلاً: 'زيدوا تكاثراً وتضاعفوا عدداً, يا خليقتي وصنعتي. اسمحوا لذلك الذي وهِب العقل بأن يعرف نفسه ليصبح خالداً ويدرك بأن السبب المفضي إلى الموت هو حبّ الجسد, ودعوه يتعلّم ماهيّة كل شيء, لأنه عندما يعرف نفسه فهو يلج إلى مقامٍ صالح.'

"وعندما انتهى الله من خطابه, بعناية إلهية منه ثم بمعونة من السلاطين السبعة في انسجام وتناغم, جُلِب الجنسين معاً مما أدى إلى نشوء الخلائط وتأسيس الأجيال, ثم تكاثر كل شيء وفقاً لنوعه. إن الذي يتّبع هواه ويقع في غواية تعلّقه سيحبّ جسده, ويمكث في مكانه يتخبّط في الظلمة يحسّ ويعاني لوعة من مآخذ الموت, ولكن من أدرك أن الجسد ليس سوى قبر للروح فهو يعرج نحو الخلود."

بعد ذلك رغب هرمس في معرف العِلَّة التي جعلت الإنسان يُحرَم من الخلود بسبب خطيئة الجهل وحدها. أجاب التنين العظيم: "يعتبر الجسد بالنسبة للجاهل أعلى منزلة, وليس بقادرٍ على إدراك الخلود الذي يكمن في داخله. ومع أنه عارفٌ بأن الجسد وحده عرضة للموت, إلا أنه يؤمن بالموت لأنه يعبد تلك المادة التي تعتبر جالبة للموت وحقيقة له."

بعدها سأل هرمس عن الطريقة التي توصل الصالحين والحكماء إلى الله, فأجابه بويماندريس Poimandres قائلاً: "هذا ما أخبرته كلمة الله Word of God حين قالت: 'ولأن (ربَّ) Father كل شيء قد وسِع خلقه الحياةَ Life والنور Light , فكذلك مما خُلِق الإنسان منه.' ومن ثم فإن الإنسان إذا تعلّم وفهم طبيعة الحياة والنور, فإن مآله إلى سرمدية الحياة والنور."

عقِب ذلك تساءل هرمس حول الطريق الذي يتوصّل عبره الحكيم إلى حياة أبدية. استمر بويماندريس في قوله: "دع الإنسان الذي وهِب آية العقل أن يتدبّر في نفسه ويعرفها, ومن ثم فإنه مع قوة عقله سيفصل نفسه عن اللانفس التي فيه ليصبح خادماً للحقيقة Reality."
سأل هرمس ماذا لو كان كل الإنس ليس لهم عقول؟، فأجاب التنين العظيم: "راقب ما تقول، لأنني العقل The Mind – المعلّم الأبدي The Eternal Teacher. أنا ربُّ الكلمة Father of the Word – مُخلِّص الإنسانية – وفي طبيعة الحكماء تتجسد الكلمة Word. وبواسطة الكلمة Word, يبقى العالم محفوظاً. أنا الفكر Thought (تحوت Thoth) – ربُّ الكلمة والعقل – أدنو فقط إلى من هم مباركون وصالحون, طاهرون ورحماء, يعيشون حياتهم بورعٍ وتقوى, وجودي يمثّل مصدر إلهامٍ وعون لهم, لأني عندما آتي فهم يعرفون كل شيء كلمح البصر ويوقّرون ربَّ الكون The Universal Father. قبل أن يموت هؤلاء الحكماء والفلاسفة يتعلمون نبذ حواسهم المادّية, عارفين بأنها ليس سوى عدوّة لأرواحهم الخالدة.

"لن آذن للشر أبداً بأن يسيطر على أجساد الذين يحبّونني, ولن أسمح للأحاسيس أو الأفكار الشريرة بأن تتسرب إليهم. أكون كالحاجب أو الحارس أمنع الشر عن الحكماء وأحميهم من غريزتهم الدونيّة. وأما أولئك الفجّار أهل الحسد والطمع فإني لا أقترب منهم, فهم لا يستطيعوا أن يفهموا أسرار العقل Mind؛ ولهذا أنا غير مرحِّب بهم. سأتركهم للشيطان المنتقِم الذي يقيّضونه داخل نفوسهم, لشَّر يتزايد كل يوم ويعذّب الإنسان بأشد مما كان, ويصير كل عملٍ طالح يزيد من سيئات المرء التي قدّمها حتى يدمر الشر نفسه في النهاية. وإن عقوبة الشهوة تكمن في عذاب فقدانها."
 

أحنى هرمس رأسه تعبيراً عن شكره للتنين العظيم الذي علَّمه كثيراً, ثم توسّل لسماع المزيد فيما يتعلّق بالحدود النهائية للنفس البشرية. لذلك استأنف بويماندريس Poimandres حديثه قائلاً: "عند الموت يتحلل الجسد المادي إلى العناصر التي نشأ منها, وأما الإنسان السماوي الغيبي فهو يصعد إلى المصدر الذي أتى منه, ألا وهو الكرة الثامنة أو المحيط الثامن The Eighth Sphere. ينطوي الشر إلى مثوى الشيطان, وأما الحواس والمشاعر والرغبات وأهواء الجسد تعود إلى مصدرها ألا وهم السلاطين السبعة The Seven Governors, الذين تفنى قواهم بفناء الإنسان الدنيوي ولكنها تظل تمنح الحياة بداخل الإنسان الروحي الغيبي.

"بعد رجوع طبيعته الدنيويّة إلى حالتها البهيمية, تناضل طبيعته الأسمى مجدداً لاستعادة ميراثها السماوي. تعرج عبر الهالات السبع The Seven Rings التي يجلس عليها السلاطين السبعة The Seven Governors وتقوم بإرجاع قواهم الدنيوية لكل واحد منهم على هذا النحو: فوق الهالة الأولى يجلس القمر Moon, وإليه تردّ القدرة على التكاثر والتناقص. وفوق الهالة الثانية يجلس عطارد Mercury, وإليه تردّ المكائد والخداع والمكر . وفوق الهالة الثالثة تجلس الزهرة Venus, وإليها تردّ الشهوات والأهواء. وفوق الهالة الرابعة تجلس الشمس Sun, وإلى هذا السيد تردّ الطموحات. وفوق الهالة الخامسة يجلس المريخ Mars, وإليه يردّ التهوّر والجسارة المدنَّسة. وفوق الهالة السادسة يجلس المشتري Jupiter, وإليه تردّ غريزة اكتناز الثروات وتكديسها. وفوق الهالة السابعة يجلس زحل Saturn, عند بوابة الفوضى The Gate of Chaos(المترجم: قد يكون بعد هذه البوابة ما يسمى بـ"اللاتكوّن" أو "الهيولى" وتعنى المادة اللامتشكلة المفروض أنها سبقت وجود الكون. وقد تعني "الجوهر" حسب فلسفة أرسطو, أو "النظام المستتر" حسب النظرية الهولوغرافية), وإليه يردّ الباطل والتآمر على فعل الشر.

"بعد ذلك وعندما تصبح مجرّدة من كل تراكمات الهالات السبع, تصل الروح إلى الكرة الثامنة The Eighth Sphere, التي تسمى بـ "حلْقَة النجوم الثابتة". وهناك تصبح متحررة من كامل الوهم, تأوي إلى النور وتسبّح الربَّ Father بصوت لا يفهمه إلا روحٌ طاهرة. اسمع يا هرمس, هناك سرٌّ عظيم في الكرة الثامنة The Eighth Sphere, إن مجرّة درب التبّانة Milky Way هي بمثابة أرض خصبة بالأرواح, ومن هناك تهبط الأرواح إلى الهالات Rings, ومن ثم تعود إلى درب التبّانة مجدداً من بين عجلات زحل Saturn. ولكن بعضها لن تتمكن من صعود سلّم الدرجات السبع للهالات Rings. ونتيجة لذلك تهيم في الظلمة بالأسفل وتنجرف نحو الأبدية متعلّقة بوهم الإحساس والدنيويّة.

"إن الطريق المؤدي إلى الخلود صعبٌ وشاق, وقليلون فقط استطاعوا إيجاده. والبقية ينتظرون اليوم العظيم The Great Day (يوم القيامة) عندما يتم إيقاف عجلات الكون وتفلت الشرارات الخالدة (الأرواح) من أغمادها المادية (الأجساد). فويلٌ لمن انتظر, لأنهم سيعودون مجدداً, وهم جاهلون وبلا وعي, إلى الأراضي الخصبة في النجوم, منتظرين بداية جديدة. أما أولئك الذين نجوا مهتدين بنور الأسرار التي أوحيتُ بها إليك يا هرمس وأدعوك الآن إلى إقامتها بين البشر, هؤلاء سوف يعودون مجدداً إلى الربّ الساكن في النور الأبيض The White Light, ولسوف يسلّمون أنفسهم إلى النور وينغمسون فيه, وفي داخل النور سوف يصبحون من قوى الله. هذا هو طريق الصلاح The Way of Good وقد أُوحي فقط إلى من أوتي الحكمة.

"طوبى لك يا ابن النور Son of Light, فإنني أنا, بويماندريس Poimandres, نور العالم The Light of the World, قد تجليت لك وحدك من بين كل الناس. آمرك بأن تنطلق وتكون هادياً لأولئك الذين يهيمون في الظلمة, لكل البشر الذين تكمن في دواخلهم روح عقلي (العقل الكوني The Universal Mind) لعلهم ينجون مهتدين بعقلي الكامن فيك, الذي سيدعو عقلي الكامن فيهم. أقِم أسراري Mysteries ولن تسقط تلك من الأرض, لأنني أنا عقل الأسرار The Mind of the Mysteries وما دام العقل لن يسقط (وهذا مستحيل) فإن أسراري لن تسقط. وبهذه الكلمات فارقه بويماندريس وهو يشعّ بنور سماوي, اختفى, ثم اندمج مع قوى السماوات. رفع هرمس عينيه إلى السماوات وسبّح بحمد ربّ كل شيء, وكرّس حياته لخدمة النور العظيم The Great Light.

وهكذا قام هرمس يعظ الناس قائلاً: "يا أهل الأرض, يا من ولِدوا وخلِقوا من العناصر, وروح الإنسان السماوي بين جنبيكم, استيقظوا من سبات جهلكم! أفيقوا من سكرتكم وتعالوا تأملوا وتفكّروا. اعلموا أن منزلكم ليس في الأرض وإنما في النور. لماذا سلّمتم أنفسكم إلى الموت, بينما تملكون القدرة على نيل الخلود؟. توبوا, وغيروا أفكاركم. انفروا من عتمة الظلمة وأهجروا الفساد إلى الأبد. وأعدّوا أنفسكم لتسلّق الهالات السبع The Seven Rings لكي تمزجوا أرواحكم مع النور الأبديّ."

بعض الذين سمعوه استهزأوا به وسخروا منه ثم ولّوا مدبرين, وسلّموا أنفسهم إلى الموت الثاني The Second Death الذي لا خلاص منه. ولكن آخرين منهم, ألقوا أنفسهم عند قدمي هرمس, وألحّوا عليه بأن يعلّمهم نهج الحياة The Way of Life. لقد أقامهم عن الأرض بلطف, ولم يقبل أيّ استحسان لنفسه, ثم أخذ عصاه بيده ومضى يعلّم ويوجّه البشرية, ويبيّن لهم طريق النجاة.

في عوالم الإنس, زرع هرمس بذور الحكمة وأنعش تلك البذور بمياهٍ خالده Immortal Waters. وأخيراً حلّت ساعة المغيب على حياته, وريثما نور النهار على الأرض قد بدأ بالغروب, أمر هرمس حوارييه (تلاميذه وأتباعه) بأن يحافظوا على تعاليمه المصانة على مَرّ كل العصور. في كتابه "رؤيا بويماندريس" The Vision of Poimandres تعهّد هرمس بكتابة ما يفيد بأن جميع البشر المتلهّفين لنيل الخلود قد يجدون فيه الطريق المؤدي لذلك.

وفي ختام تأوليه لــــ "الرؤيا" The Vision, كتب هرمس يقول: "نوم الجسد هو اليقظة الرزينة للعقل وإغلاق عينيّ يكشف لي النور الحقيقي. صمتي مملوء ببراعم الحياة والأمل, ومليء بالخير. كلماتي هي أزهار الفاكهة لشجرة روحي. هذا هو الوصف الصحيح الذي أتلقاه من عقلي الحقيقي, ألا وهو بويمنادريس Poimandres, التنين العظيم The Great Dragon, سيد الكلمة The Lord of the Word, الذي من خلاله أصبحت مُلهَماً من الله بالحقيقة. منذ ذلك اليوم لم يكن عقلي بمعيّتي أبداً وفي داخل روحي أوجد الكلمة The Word: الكلمة هي (سبب) Reason, والـ(سبب) قد حرّرني. ولهذا السبب, بكل ذرّة في كياني وبكل ما أوتيت من قوة, سبّحت بحمد الله, الرَّب The Father, الحياة Life والنور Light, البَرُّ الصَّمد The Eternal Good."

"قدّوسٌ أنت يا الله, يا ربَّ كل شيء, يا من هو الأول قبل البداية الأولى."
"قدّوسٌ أنت يا الله, يا من اقتضت إرادته وتمّت بسلطانه الذي أوجده من نفسه."
"قدّوسٌ أنت يا الله, يا من قدَّر بأن يُعرف, ويعرفه خاصّته الذين أسفر لهم عن نفسه."
"تقدّس اسمك, يا من أقمتَ بالكلمة (سبب) كل شيء."
"تقدّس اسمك, يا من صوّر الطبيعة على صورته."
"تقدّس اسمك, يا من عظمت منزلته فوق كل منزلة."
"تقدّس اسمك, يا من أنت أقوى من كل القوى."
"تقدّس اسمك, يا من جلَّ جلاله فوق كل ذي جلالة."
"تقدّس اسمك, يا من أنت أجود من كل ثناءٍ وحمد."

"اقبل هذه التضحيات البسيطة من روحٍ طاهرة وقلبٍ ممدودٍ إليك."
"يا من يعجز عنه الوصف, وأجلّ عن الوصف, نحمدك ونثني عليك بصمت!."

"أتوسّل إليك أن تنظر إليّ برحمتك, واكفني خطيئة البعد عن معرفتك, واجعلني أنير عقول أولئك الذين في جهلهم يعمهون, هم إخوتي وعبادك."

"لذلك فأنا مؤمن بك وشاهدٌ عليك, ومرتحلٌ إلى نورك وحياتك في وئام وإخلاص."
"تباركت ربّنا وتعاليت!, إن الإنسان الذي صوّرته مُتَقدِسٌ بك لأنك منحته السلطان ليُقدّس الآخرين بكلمتك وحقيقتك."

"رؤيا هرمس" The Vision of Hermes, مثل بقية الكتابات الهرمسية الأخرى, تتضمن بعضاً من أعظم الحقائق الفلسفية والباطنية على هيئة استعارات مجازية (تشبيهات يقصد بها غير معناها الحرفي بل معنى له علاقة مباشرة بالمعنى الحرفي, أيّ صرف اللفظ عن معناها الظاهر إلى معنى مرجوح بقرينه), وبالنسبة لمعانيها الخفية فما يعْقِلُهَا سوى أولئك الذين "رُفِعوا" إلى حضرة العقل الحقّ The True Mind.
03900.jpg

هيئة يونانية لـ "هرمس"​

الإسم "هرمس" مشتق من "هيرم" Herm (تمثال يتكون من عمود حجري يعلوه منحوتة لرأس (عادة يكون لهرمس) كان يستخدم في اليونان القديمة كعلامات على الحدود أو معلماً للزّينة), وهو صيغة مأخوذة من الإسم "حيرام" CHiram (ويعني المجيد أو المعظّم, وهو اسم مشهور في التقاليد الماسونية السرّية يعود إلى "حيرام آبي" وتجمعه علاقة أكيدة مع "هرمس". "حيرام" هي كلمة مكونة من ثلاث كلمات تشير إلى الروح الكونية, الجوهر الذي تتكون منه الخليقة, والغاية من الفلسفة الطبيعية الأصيلة وفقاً لمبادئها وخصائصها الباطنية), وهو تشخيص لمبدأ الحياة الكونية The Personified Universal Life Principle, ويتم تمثيله عموماً بعنصر النار. كان الإسكندنافيون Scandinavians يعبدون هرمس تحت اسم "أودين" Odin, والجرمان يعبدونه باسم "ووتان" Wotan, وبعض الشعوب الشرقية باسم "بوذا" Buddha أو "فو" Fo.

هناك نظريتان تتعلق بشأن وفاته. الأولى تقرّ بأن هرمس قد نُقِل مثل "أنوخ" Enoch ورُفِع بدون أن يموت إلى حضرة الله ( وهو النبي إدريس عليه السلام كما قال الله تعالى عنه: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} ), أما النظرية الثانية فتنصّ بأنه قد دُفِن في "وادي حبرون" Valley of Ebron وأن كنزاً عظيماً قد وضِع في قبره؛ ليس كنزاً من الذهب وإنما كتب وتعاليم مقدّسة.

لقد شبّه المصريون البشرية مثل قطيع من الأغنام. وكان يُعتبر "الربّ" Father العَلِيّ والذي لا يمكن تصّوره هو الراعيThe Shepherd, وهرمس هو كلب الراعي The shepherd dog. إن جذور (عصا الراعي) التي يتم ذكرها غالباً في الرموز الدينية قد تعود إلى ما كان يحدث في الطقوس والشعائر المصرية. بمقتضى السلطة التي تستند على تلك العصا الرمزية (عصا الراعي) وبقية صولجانات مصر, فإنها ترمز إلى دور الفراعنة Pharaohs المنتسبين (إلى المحافل السرّية) في توجيه مصير شعوبهم.


إنتهى
 

أداب الحوار

المرجو التحلي بأداب الحوار وعدم الإنجرار خلف المشاحنات، بحال مضايقة إستخدم زر الإبلاغ وسنتخذ الإجراء المناسب، يمكنك الإطلاع على [ قوانين وسياسة الموقع ] و [ ماهو سايكوجين ]
أعلى