- المشاركات
- 2,077
- مستوى التفاعل
- 6,240
جسم الإنسان في المذاهب الرمزية
The Human Body in Symbolism
ترجمة:
The Human Body in Symbolism
محتوى مخفي
تسجيل الدخول
أو
تسجيل
لمشاهدة الروابط
وكافة حقوق الترجمة محفوظة لمكتبة ألفا العلمية 2015م.يعتبر جسم الإنسان هو أقدم وأكثر الرموز عمقاً وكونيّة من بين كل الرموز قاطبة. كان كلٌ من الإغريق والفرس والمصريين والهندوس يقدّرون حدّ التبجيل التحليل الفلسفي لطبيعة الإنسان الثالوثية واعتبروا ذلك جزءاً لا يتجزأ من تهذيبهم الديني والأخلاقي. كانت "المدارس السرّية" The Mysteries في كل أمّة تعلّم حقيقة أن كافة قوانين وعناصر وقوى الكون قد تجسّدت في جِبِلّة الإنسان وكينونته؛ وأن كل ما هو موجود خارج كيان الإنسان يوجد ما يماثله في داخله. الكون, كونه يتعذّر قياس ضخامته ولا يمكن تصوّر عمقه, فهو يتجاوز تقديرات وتخمينات العقل البشري. حتى الآلهة أنفسهم لا يدركون سوى جزء يسير من ذلك المصدر الحصين الذي استمدوا منه مجدهم وجبروتهم. عندما تتغلغل نشوة روحية إلى الإنسان للحظات مؤقتة, فإنه يتجاوز لوهلة محدودية وجوده الدنيوي ويبصر ذلك السناء السماوي الذي يغمر كل الخليقة. بل وحتى في أعظم أوقات الإنسان تنوّراً, فإنه لا يزال غير قادر على أن يطبع في جوهر روحه العاقلة صورة مثالية للنشاطات السماوية متعددة الأشكال والأبعاد.
إقراراً منهم بعبثية محاولة التعامل فكرياً مع كل ما يتجاوز استيعاب الملكات العقلية, حوّل الفلاسفة الأوائل انتباههم واهتمامهم من البحث في اللاهوت الغير قابل للتصوّر والإستيعاب إلى البحث في الإنسان ذاته, والذي وجدوا في حدود دائرته الضيّقة تجلياً لكافة الغوامض والأسرار التي تحوزها الدائرة الأكبر اللامحدودة. وكامتداد طبيعي لهذه الممارسة العلمية, تم تشكيل منهج فكري لاهوتي سرّي حيث تم اعتبار الله على أساس أنه الإنسان الأكبر, وبالمقابل تم اعتبار الإنسان بأنه إله صغير. واستناداً على هذا التشبيه, كان ينظر إلى الكون على أنه إنسان, وعلى العكس, والإنسان على أنه كون مصغّر. كان يوصف الكون الكبير بـ"العالم الأكبر" أو "الجسد الأكبر" Macrocosm, والحياة الإلهية أو الكيان الروحي الذي يدير كافة نشاطاته وآلياته يُسمى "التجلّي الأكبر" Macroprosophus. بينما جسد الإنسان, أو كون الإنسان الذاتي, فقد كان يوصف بـ"العالم الأصغر" أو "الجسد الأصغر" Microcosm, والحياة الإلهية أو الكيان الروحي الذي يدير كافة نشاطاته وآلياته يُسمى "التجلّي الأصغر" Microprosophus. كانت المدارس السرية التي ازدهرت في العصور الوثنية (قبل ظهور الأديان الشمولية المنظّمة), تهتم بشكل رئيسي بتعليم المنتسبين الجدد على مدى العلاقة الفعلية بين "العالم الأكبر" و"العالم الأصغر". أيّ بمعنى آخر: العلاقة بين الله والإنسان. ومن ثم فقد كانت المفاتيح المؤدية للتشبيهات والتناظرات بين أعضاء وآليات "الإنسان الأكبر" (الكون) وأعضاء وآليات "الإنسان الأصغر" (الإنسان) تمثّل الأسرار الأكثر تقديراً وإجلالاً لدى المنتسبين الأوائل للمدارس السرّية.
في كتابها الشهير "سرّ إيزيس المكشوف" Isis Unveiled, لخّصت "هيلينا بتروفنا بلافاتسكي" H. P. Blavatsky (مؤسِسة الجمعية الثيوصوفية) المفهوم الوثني بخصوص الإنسان كما يلي: "الإنسان هو عالم صغير Microcosm داخل الكون العظيم. يشبه الجنين وهو معلّق بأرواحه الثلاثة في رحم فلك كون كبير Macrocosmos, وبينما يكون جسده الأرضي على تناغم مستمرّ مع الأرض, تبقى روحه النجمية في حالة انسجام وتجاوب مع "روح العالم" Anima Mundi النجمية. هو في داخل الكون كما الكون في داخله, حيث أن هذا العنصر المنتشر في الكون يملأ كل الفضاء, إنه الفضاء بعينه, لكنه متناهي وخالي من الحدود. وبالنسبة لروحه الثالثة, السماوية, فهي عبارة عن إشعاع متناهي الصغر, أحد الإشعاعات اللامحدودة المنبعثة مباشرة من "السبب الأول" Highest Cause .. النور الروحي للعالم؟. هذا هو ثالوث الطبيعة العضوية وغير العضوية .. الروحية والجسدية, والتي هي ثلاثة في واحد, والتي قال عنها "بروكلوس" Proclus (فيلسوف أفلاطوني محدث, عُرف في المصادر العربية بـ"برقلس"): ‘بأن الميحاد أو الجوهر الفردي الأول monad هو "الإله السرمدي" Eternal God, والثاني هو "الأبدية" Eternity, والثالث هو "النموذج الأولي" Paradigm أو مخطط الكون.‘ مجموع الثلاثة يشكّل الثالوث المتجلّي Intelligible Triad."
قبل زمنٍ بعيد من استحداث عبادة الأصنام على هيئة ديانة, قام الحكماء الأوائل بوضع تمثال للإنسان في حرم الهيكل (مركز تعليم الحكمة). هذا التمثال البشري كان يرمز إلى القوة الإلهية بكل مظاهرها وتجسيداتها المعقّدة. لقد اعتبر حكماء العصور القديمة الإنسان بأنه كتاب قائم بذاته, يحتوي أسرار الكون. ومن خلال دراسته بإمعان وتفحّص, تعلّموا كيف يفهموا أسرار وغوامض الخطة الكونية الأعظم التي يمثّلون جزءاً منها. لم يرد عن ذلك التمثال الغامض, الواقف فوق المذبح العتيق, بأنه قد صنع على صورة "تمثال يشبه شكل جسم الإنسان" Manikin كما الرموز التي لا زالت صورها صامدة عبر العصور في حوزة "المدارس السرّية" Mystery Schools, وكان مكسواً بكتابات وشعارات هيروغليفية منقوشة أو مرسومة. ربما كان التمثال مكشوفاً لكي تتبين أجزاءه الداخلية, وبالتالي يُظهر المواضع النسبية للأعضاء والعظام والعضلات والأعصاب وأجزاء أخرى. بعد أجيال متعددة من البحث, أصبح هذا التمثال مكسواً تماماً بعدد كبير ومتشابك من الكتابات الهيروغليفية والنقوش الرمزية. كل جزء كان له معناه السرّي الخاص. وشكّلت القياسات نموذج أساسي بحيث يمكن استخدامه لقياس كافة أجزاء الكون. كان يمثّل رمزاً مركّباً مجيداً يحتوي على كل المعارف التي حازها الحكماء والفلاسفة المبجّلين الأوائل.
بعد هذه الفترة المزدهرة جاء عصر الوثنية وعبادة الأصنام. فتلاشت الحكمة الأصيلة وتهاوت "الأسرار" The Mysteries أمام تنامي روح الجشع والإستغلال الذي لم يتجسّد من قبل بهذا المدى البغيض. لقد فُقدت الأسرار إلى الأبد ولم يعد يتعرّف أحد على هوية هذا التمثال الغامض الواقف في محراب الهيكل. كل ما تم تذكره فقط هو أن هذه الشخصية تمثّل رمزاً مقدّساً ومجيداً للقوة الكونية العظيمة, ونظروا إليه أخيراً على أنه ممثّل الله على الأرض .. الإله الأوحد الذي خلق الإنسان على صورته. بعد فقدان المعرفة التي تكشف عن الغاية الحقيقية لصنع هذا التمثال, راح الكهنة يشجّعون الرعايا على عبادته وتبجيله وتقديم القرابين والهبات .. إلى أن جاء الوقت أخيراً, حيث تجرّدت طقوس عبادتهم من أيّ مظهر روحي عميق, فانهار المعبد فوق رؤوسهم ومال التمثال نحو الأرض فتحطّم .. فاندثرت تلك الحضارة الوثنية التي نسي حكماءها المعاني الحقيقية التي يخفيها هذا التمثال.
منطلقين من استنتاجات الحكماء اللاهوتيين الأوائل, والقائلة بأن الإنسان قد خُلق على صورة الله, راح الفلاسفة يؤسسون نظريات لاهوتية هائلة تتمحور أساساً حول جسم الإنسان وأسراره اللامتناهية. إن العالم الديني اليوم لازال في حالة جهل كامل لحقيقة أن علم الأحياء (البيولوجية) المتطوّر هو من بين العلوم الأساسية (إلى جانب علم الفلك والهندسة والخيمياء .. وغيرها) التي تخفيها تعاليمه ونصوصه المقدّسة. إن الكثير من التشريعات والقوانين التي يعتقد علماء الدين في العصر الحديث بأنها مُنزلة من السماء, هي في الحقيقة ثمرة أجيال وأجيال من البحث العلمي المتأنّي والتعمّق في خفايا وتعقيدات البنية الجسدية للإنسان, وتسجيل العجائب اللامتناهية التي كشفت عنها هذه الأبحاث المطوّلة.
في معظم الكتب المقدّسة حول العالم, يمكننا استنباط آثار واضحة لمعلومات مشفّرة تتناول علم الأحياء المتطوّر على هيئة تشبيهات وتناظرات تشريحية. وسيكون الأمر أوضح في النصوص المتناولة لأساطير الخلق. إن أيّ شخص مطّلع على علم الأجنة وعلم التوليد سوف لن يواجه صعوبة في تمييز قواعد الإستعارة في القصص الرمزية التي ترويها النصوص المقدّسة, خاصة بما يتعلّق بقصة آدم وحواء وجنّة عدن, وكذلك قصة الدرجات التسعة لطقوس الأسرار الألوسينية Eleusinian Mysteries (مراسم للإنتساب كانت تقام كل عام لـعبادة "ديميتر" Demeter و"برسفون" Persephone في مدينة إلفسينا في اليونان القديمة), وكذلك الأسطورة البراهمانية التي تروي قصة "فشنو" وتقمّصاته (تجلياته) المتعددة. بالإضافة إلى قصّة البيضة الكونية Universal Egg (أسطورة الخلق في الميثولوجيا الإغريقية), والأسطورة الإسكندنافية التي تروي قصّة الـ"غينونغاغاب" Ginnungagap (الصدع المظلم في الفضاء والذي زُرعت فيه بذرة العالم), وكذلك استخدام السمكة كرمز قوة التوالد الأبوي. جميعها تكشف عن المنشأ الحقيقي للتأمل والتدبّر اللاهوتي. قد أدرك فلاسفة العالم القديم بأن الإنسان ذاته يمثّل مفتاح لغز الحياة, حيث يمثّل الصورة الحية للخطة الإلهية الشاملة, وفي العصور المستقبلية سوف تتوصل الإنسانية إلى إدراك أكثر اكتمالاً للمعنى الجليل المتمثّل بالعبارة القديمة القائلة: "إن الدراسة المناسبة للكائن البشري هي الإنسان".