dandan
الإنسان
- المشاركات
- 109
- مستوى التفاعل
- 438
مرحباً ... لقد فتحت هذا الموضوع من أجل أن يفيدنا كل من يريد أن يشاركنا تجربته الفلسفية مع الحقيقة ، من خلال إضافة آراء أو مراجع أو مناقشات .. أتمنى من الإدارة الكريمة أن تتقبل خطوتي هذه ربما تكون سبباً في إنشاء قسمٍ خاص بقضية "الحقيقة" الفلسفية
وسأبدا أنا من خلال هذا المقال الصغير ...
مشكلة الحقيقة هي من المشاكل الميتافيزيقية الرئيسية التي يتعين على أي مذهب ديني أو فلسفي متماسك أن يعطي لها تصوراً ،بل إن كل إنسان يجب أن يعطي تصوراً خاصاً به عن الحقيقة ، لكي يتسنى له متابعة حياته الفكرية دون أن يقع في التصرفات المجنونة ( غير العقلية ).
(1) لمحة عامة عن قضية الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية ونشأتها عند الإسان :
يروق للفلاسفة أن يسموا مشكلة الحقيقة "بمشكلة بيلاطس" ، أحد أشهر مسؤولي العدالة في التاريخ ، الذي قال له المسيح أثناء التحقيق : "إنما كانت الغاية التي من أجلها ولدت ، والغرض الذي من أجله أتيت إلى العالم ، هو أن أكون على الحقيقة شاهداً ،وإن كل من كان من أهل الحقيقة ليصغي إلى ما أقول" ، وكان رد بيلاطس الشهير هو :"ما الحقيقة" ...
لقد اعتاد الناس على ما يسمى بالفلسفة "الموقف الطبيعي" ،والذي يرى أن كل شيء في الوجود حقيقة ،سواءً أكان طريق الوصول إليه هو العقل أم التجربة ،ويندرج تحت هذين التصنيفين جميع مظاهر الوجود التي تشمل المادة والعقل والذهن واللاهوت ،وأن الشيء غير الحقيقي يقتصر على ما يقوله الإنسان دون دليل ، أو دون تمحيص أو دون نية بالصدق ، أي أن الكذب "ظاهرة إنسانية مجردة" ولا علاقة لها بالوجود.
لكن الإنسان عندما ينظّم تفكيره ويربط بين معلوماته وتجاربه المختلفة ويلع على معلومات جديدة يربطها معها ، أي عندما يتفلسف ، سوف يرى أن المنطق الشعبي الذي يستخدمه معظم الناس ، دائماً ما يؤدي بهم إلى نتائج مختلفة ، فمصطلحا "اللاممكن" و"اللامعقول" ، يعنيان عند كل شخص شيئاً مختلفاً عن بقية الناس ،ويمكن بناء تأويلات لغوية قد تكون لانهائية ،يمكن من خلالها تفسير اللاممكن واللامقول ،بل إن "السلطة العلمية والدينية" أصبحت في هذا العصر لا تنطوي على أي حقائق مطلقة وهو ما يقره العلم نفسه سواءً بمنهجه البراغماتي الذي لا يعير للواقع النهائي للوجود أي أهمية في بحثه ،أو بالمعلومات التي أصبحت تناقض كل دراسة فيها دراسة أخرى ،وأصبح في كل فرعٍ شيء يعرف بالقسم التقليدي ( كالفيزياء التقليدية ) والقسم الحديث ( كالفيزياء الحديثة أو المتقدمة ) ،والمشكلة أن كلّاً من القسمين ينطوي على نتائج صحيحة ،ولا يوجد طريقة للوصل بين هذين القسمين ،بل إن القسم الواحد يحتوي على مفارقات ، كما حصل في الفيزياء الحديثة في المفارقات التي أنتجتها محاولات التوحيد بين نظرية النسبية ونظرية الميكانيكا الكمية ،مع العلم أن هاتين النظريتين كلتاهما حديثتان.
وهذا العلم نفسه أصبح يناقض الموقف البيعي الساذج ،فأصبحت الجبال الثابتة تتحرك بسرعة أكبر من سرعة الطائرة العادية بالنسبة إلى محور الأرض ،بل أسرع من ذلك بعشرات المرات بالنسبة إلى الشمس ، وأسرع من ذلك بآلاف المرات بالنسبة إلى المجرات البعيدة ،رغم أننا لا نحس بتلك السرعة.
ولذلك كان لابد من وضع قواعد للتفكير يتم من خلالها إثبات تاويل واحد لتلك المصطلحات ،والمرجع لذلك هو الفكر نفسه ،ويجد الباحث عندما يلجأ للموقف الطبيعي في هذه الحالة ،أن البحث لابد أن يبدأ في دائرة المعرفة الإنسانية ،وحينها سوف يتعرف على الحصاد الفلسفي لجميع الفلاسفة الذين سبقوه ،ولكن عينه ستقع على أبسط ما أنتجه الذهن الفلسفي في ميدان مقاييس الحقيقة كونه باحث مبتدئ ، ألا وهو المنطق القياسي أو ما يسمى بالمنطق الأرسطي (نسبة لأرسطو).
وهذه كانت بدايتي أنا أيضاً في البحث عن الحقيقة المطلقة ،وسأسرد تسلسل الأحداث الفكرية الكبرى في رحلتي وما انتهت إليه ...
(2) مشكلة الحقيقة كمشكلة فلسفية ميتافيزيقية :
لقد نشأت الفلسفة من أجل تنظيم وربط وإبداع الأفكار الفلسفية بطرق منهجية توصل إليها الفلاسفة من قبل ، والأفكار الفلسفية هي الأفكار المتعلقة بالوجود والإنسان والمبنية على تدليل منهجي أو شعبي ولكن مترابط مع أفكارٍ أخرى ...
وقسمت الفلسفة قديماً وحديثاً إلى عدة أقسام ،كل قسمٍ يبحث بجزءٍ من الأجزاء الكبرى للوجود ، أو كما يحلو لي أن أقول ،كل قسم يبحث بظاهرة أو تجلي من تجليات الوجود ،وأقوى وأشهر تقسيم رئيسي للوجود بناءً على مشكلة الحقيقة ،هو تقسم الوجود إلى ظاهر وباطن ،كما بدأه أفلاطون ثم أكمله ونسقه أرسطو ليشكل علمين ،الأول هو الفيزيقا أو الفيزياء ، التي تبحث بماهية المحسوس والمرصود ،وثاني قسم وهو الأهم ،هو الميتافيزيقا.
إن أسهل تعريف للميتافيزيقا هو أنها "العلم الذي يدرس الخصائص والصفات والقوانين والبناءات العامة التي تتعلق بالوجود بصفته وجوداً وليس بصفته موجوداً" ، أي أن العلم الطبيعي لا ينبؤنا بجوهر "المادة" و"الطاقة" و"الزمان" و"المكان" ،ولا بالقوانين التي تحكم كلّاً من هذه الأشياء ليس بصفتها مكاناً أو زماناً أو مادةً أو طاقة ،بل لكونها أشياء موجودة في حيز الوجود ،فضلاً عن أنه لا ينبؤنا بالمرة بالمعاني الفلسفية التي ليس لها مظاهر مادية مثل كلمة "قانون" وكلمة "حقيقة" وكلمة "وجود".
إن كل ما يفعله العلم هو أن يأتي لنا بمظاهر الأشياء المرصودة ،ولكنه يحتاج إلى تلك المفاهيم مثل القانون والحقيقة والظاهر والباطن والمكان والزمان من أجل أن ينبني عى هذه الأساسات مفاهيمه اللغوية والمنطقية عن العالم المحسوس المادي ، ولذلك يصف فلاسفة العلم مثل كارل بوبر الميتافيزيقا بأنها "أساس العلم" الذي يتم البناء عليه ،أما الميتافيزيقا التي تبحث أعمق من العلم الطبيعي بمراحل ، يمكن من خلالها فق الوصول إلى "العالم الحقيقي" الذي يقبع في باطن الأشياء وفي اللامحسوسات واللامحسوبات.
ومن هنا يمكن تعريف الميتافيزيقا بأنها : "الدراسة الفلسفية للتجلي الجوهري والباطني والمعنوي والحقيقي للوجود".
لقد أصبحنا الآن نعرف جيداً المعنى الصحيح لعبارة "ما وراء الطبيعة" وهي مختلفة بشكل جذري عن الباراسيكولوجي ( ماوراء علم النفس ) التي تدرس الظواهر الإنسانية والسلوكيات المتعلقة بالميتافيزيقا أو المفترض أنها تتعلق بالميتافيزيقا أكثر من تعلقها بالعلوم الطبيعية.
والحقيقة هنا هي مشكلة ميتافيزيقية أنطولوجية ( وجودية ) تتمثل بأسئلة رئيسية من مثال : ما طبيعية الحقيقة بصفتها جوهراً ،وما طبيعتها بصفتها وجوداً ، وما معيار الحقيقة وما إمكانية الوصول للحقيقة ،وما هي الحقائق الأساسية للوجود ،وما هي الحقيقة المطلقة النهائية للوجود ،أي ما معنى الوجود والغرض منه وكيف وجد ... إن الحقيقة هي أحد المعايير الفلسفية الأساسية التي تشترك في جميع أقسام الفلسفة مثل الابستمولوجيا ( نظرية المعرفة ) والسيمانطيقا ( الدلالة ) والميتافيزيقا ( ما وراء الطبيعة ).
(3) نظرة على تاريخ مشكلة الحقيقة وما وصلت إليه :
تبدأ مشكلة الحقيقة وفقاً للتاريخ الرسمي مع الهرمسيات ونصوص الفيدا الهندية بالإضافة إلى أسفار العهد القديم التي تم إحراقها والتي بقيت ،والسبب في رؤيتي هذه هو أن هذه النصوص تحتوي على نوعين من التأويل : الظهري والباطني بما يشتمل عليه من تاويل رياضي وفلسفي وسحري ،وقد عبر حكماء الهند في شروحات الفيدا عن ذلك علناً كما فعل القبلانيون في شروحات التوراة القديمة والكتب الهرمسية ... ومن السذاجة الفلسفية أن نعتبر مشكلة الحقيقة بدأت فق من اليونان القديمة ، فوهم هذه المعجزة الإغريقية لا وجود له إلا في عقول المتعصبين ،لأن الأديان فلسفات ، ولا تأتي القناعة بها إلا عن تفكير فلسفي ، والأهم من ذلك فالتعاليم الباطنية فلسفات وقد توضح هذا الفرض الأخير بشكل مفصل في القرن الأخير ...
إن مجرد التفريق بين الظاهر والباطن في الوجود ، وبين الحقيقي والمزيف في المعرفة البشرية ،والتفكير الناقد للمعرفة ،ووضع مناهج معينة تستخدم العقل للوصول إلى الباطن والحقيقي ، هو تفكير فلسفي نافذ ... وهذا التفريق بالإضافة إلى المناهج ، كان موجوداً بأقصى درجات الوضوح في التعاليم الباطنية الهرمزية التي بقيت إلى اليوم.
ولكن هذه المناهج بلغت من التعقيد ما يجعل من المحتم أن نصل إليها بالتدريج ، وهذا التدريج يجب أن يبدا مع التجربة الفلسفية الرسمية التي لا تزال محفوظة إلى اليوم ،وهذا يعني أيضاً أن الحكمة القديمة كانت قد ظهرت بالتدريج هي بدورها ، أو على الأقل ،ظهر معها مفاهيم فلسفية مناسبة وكثيفة اختفت ولم يبقى لنا سوى أن نعتمد على فلسفتنا الرسمية والتي بدأت من القرن السادس قبل الميلاد مع السيد طاليس.
وهذا السرد الآتي سوف لن يكون برطيقة تاريخية بل بتسلسل منطقي مع ذكر الاتجاهات التاريخية التي تبنته :
1. التطابق كنظرية للحقيقة وتعريف الحقيقة على هذا الأساس :
إن أول ما يخطر على بال المرء عندما يعرف الحقيقة هي أن من يصل إليها هو من يتأكد من تطابق فكره مع الواقع ، ،وفي الواقع هذا تعريف بسيط جداً ومشاكله كثيرة جداً ،وهو يعود إلى مذهب الرواقيين الذين استوحوه بدورهم من تعاليم أرسطو ...
فأول صعوبة تواجه القائل به هي صعوبة تعريف الواقع ، أي محور الغسناد الذي يتم مقارنته بالفكرة وإسنادها إليه ،ترى هل يقصد بذلك عالم المادة الموضوعي ؟ أم عالم الوعي الذاتي ؟ أم عالم الميتافيزيقا ؟ فإنه يمكن تسمية كل عالم من هذه العوالم ب"الواقع" ، وهي تناقض بعضها بعضاً ،ولو افترضنا أنه تم الاختيار ووقع على أحدها ، فما الدليل المنطقي على أنه هو الواقع وليس غيره ؟ بل إنه حتى ولو كان لا وجود إلا له ،فهذا لا يكفي لكي نقول إن هذا العالم هو الواقع ، لأنه قد يكون وهماً هو الآخر ( هذا افتراض مبدئي لمن لا يعرف طبيعة هذه العوالم ).
أما الصعوبة الثانية فقد لا تقل أهمية ، وهي صعوبة إمكانية معرفة التطابق هل حدث أم لم يحدث : فلنفترض أننا تخيلنا وجود إبريق عملاق يدور بين كوكبين لا نعرفهما ،وإبريق آخر يدور بين القمر والأرض لكنه متناهي الصغر بحيث لا يمكن أن يتم رصده بآلاتنا ولا باي آلات أخرى مهما بلغت من التعقيد ،ترى كيف سنعرف هل هذا التصور موافق للواقع الفيزيائي أم لا ؟ ففي كلتا الحالتين ليس هناك إمكانية لإثبات أو إثبات عدم وجود هذين الإبريقين ،هذه المفارقة تعرف ب"إبريق راسل" نسبة إلى برتراند راسل ،وقس عليها جميع الأفكار المختلفة سواءً المتعلقة بعالم الفيزياء أو بعالم الميتافيزيقا أو بعالم الوعي ، حيث دون وسيلة للتحقق لا يمكن أن نعرف أي حقيقة إذا كان تعريف الحقيقة هو التطابق بين الفكر والواقع ، وكل ما سنحصل عليه هو مجرد نظريات لا حصر لها عن الوجود ... والوسائل المعروفة للتحقق من التطابق ليست متطورة كفاية من أجل أن تصبح وسائل مقنعة لجميع الفلاسفة ،فوسيلة التحقيق الحسي ،والتي تنص على الرصد الحسي للواقع مبنية على فرضيتين غير مؤكدتين : الأولى هي أن الواقع الفيزيائي هو الواقع النهائي ،والثانية هو أن الرصد الحسي رصدٌ موثوق للواقع.
لكن أعقد صعوبة هي "المشكلة المركبة في التطابق" ، فإذا عرفنا الواقع الحقيقي ، وتمكننا من مطابقته مع الفكر عن طريق معيار مطلق ، فما الذي يثبت أن التطابق هو معيار الحقيقة ؟ إنه "التماسك المنطقي" لنظرية التطابق ،والذي يمكننا من الحسم أن التطابق يوصلنا إلى الحقيقة من خلال اعتبار ذلك بداهة ،وهذا المعيار ليس نوعاً من التطابق ،مما يعني أن الحقائق تصبح "حقائق منطقية" وليست "حقائق تطابقية".
عادة ،كان المذهب المادي يسيء استخدام هذه النظرية ، فقد كان يقفز فوق كل الصعوبات ، ويعتبر وسيلة معرفة الحقيقة الوحيدة هي الحس ،إلى أن أصبحت الرؤية الحسية للحقيقة منافية تماماً للعلم وعاراً على من يقول بها ، فتحول المذهب الحسي إلى القول بأن الحقيقة المطلقة غير موجودة كما حدث في المذهب الوضعي المنطقي.
2. الترابط كنظرية للحقيقة :
يتمثل هذا الرأي عن الحقيقة بالقول أن معيار الحقيقة الوحيد هو ترابطها المنطقي ،فالحقائق المطلقة هي حقائق منطقية أوجبتها البداهات المنطقية ، ويمكن معرفة هذه الحقائق بمعرفة البداهات والربط بينها بتسلسل منطقي استنباطي ،وتتمثل الصعوبتان الرئيسيتان لهذه النظرية في البعد بين العالم المادي والعالم المنطقي ، حيث كيف نستنتج من البداهات المنطقية مثلاً معادلات فيزيائية ؟ ،أما الصعوبة الثانية فهي بافتراض أمكن الرب بين العالم الفيزيائي والعالم المنطقي ، فكيف يمكن أن يتم إثبات صدق البداهات ؟ وقد وصفها هيوم الفيلسوف الوضعي بأنه لا دليل على البداهة لأنها ناتجة من استقراء ناقص ، فربما ليس كل ما في الحياة يخضع للمنطق أو للسببية ... ولكن الصعوبة الاكبر هي في أن المنطق قد لا يكون الواقع النهائي الذي نصل من خلاله إلى الحقيقة حتى ولو كان مرتبطاً بالواقع الفيزيائي.
3. العَملانية أو البراغماتية :
رأي البراغماتيين كان مختلفاً عن النظريتين الرئيسيتين "التطابق والترابط" ،فهم اعتبروا أن الوجود لا يحتوي حقائق مطلقة ، أو على الأقل لا يمكن الوصول إلى الحقائق الملقة ، وكل ما يمكننا فعله هو وضع منهج للوصول إلى الحقائق العملية التي تخدمنا ، وهذا ما يفعله العلم أيضاً ...
4. المعيار اللغوي للحقيقة والمنعطف اللغوي :
هنا تصل رحلتنا إلى نهايتها ،مع المذاهب اللغوية ،حيث ترى هذه المذاهب أن الوجود له طبيعة لغوية عميقة وكونية ، ومن خلالها يمكن الوصول إلى الحقيقة ، وتنقسم المذاهب اللغوية إلى :
1.المذهب التحليلي بقيادة بتجنشتاين ومدرسة فيينا : وهو اول وأقدم المدارس اللغوية الحديثة ، يرى أن الحقيقة إما أن تكون تحليلية وإما أن تكون تجريبية ، والتحليلية تبدأ من البداهات إلى النتائج ، وفي هذه الحالة لا وجود ل"ما وراء البداهات" مثل الكلمات الميتافيزيقية ذات المعنى الجوهري ، مثل كلمة "الحقيقة" نفسها ... وبالتالي كل لكلمات لها معاني نسبية ، وهذه المعاني لا تعبر عن جوهر الكلمة بل عن وظيفتها ، فليس هناك جوهر اسمه "العقل" ولا جوهر اسمه "المادة" بل العقل مجوعة وظائف يقوم بها الإنسان ، الذي هو وظائف تقوم بها المادة ، التي هي وظائف أخرى وهكذا ... ولذلك فالميتافيزيقا مجرد لغو فارغ ، إنها كلمات تعبر عن وظائف ومعاني مركبة من كلمات نسبية تنتمي إلى المادة ، وتمت إضافة الحقيقة التجريبية من أجل عدم زحزحة العلم ،وأول صعوبة في هذا المذهب هي صعوبة قاتلة ! ،وقد طورها كارل بوبر ،وهي أن عبارة "الحقائق نسبية" هي نفسها عبارة ميتافيزيقية ،وربما نقوم بتمحيص لهذا المذهب قريباً ...
2. المذهب التأويلي بقيادة غادامير والتأويليين المحدثين ،ومعناه بالانجليزية "الهرمنيوطيقا" ، وهي كلمة مستمدة من اللاتينية والتي بدورها استمدتها من اللغة المصرية القديمة من كلمة "هرمس" الذي اعتبر خبير التأويل الأول ، واعتبرت هذه الفلسفة أن الحقيقة تأويلية ،وكل شخص لديه حقيقة مختلفة عن جميع الأشخاص ،فتأويل النصوص والرموز سواءً في اللغة أو في الوجود هو ما سيوصلنا إلى الحقيقة ، ولابد من وضع منهج مطلق للتأويل إذا أردنا الوصول إلى الحقيقة المطلقة ، وذلك بتأويل الميتافيزيقا نفسها بصفتها لغة كونية وهو رأي لم يقل به جميع أتباع هذا المذهب بل قلة منهم ،أما الشائع هو استحالة وجود حقيقة نظراً للانهائية التأويلات.
3.المذهب البنيوي ولا أملك عنه معلومات كثيرة ، لكن على عكس النظرة الوظيفية يؤمن ببنيوية الألفاظ الميتافيزيقية ، أي أن العقل جوهر وكذلك المادة ، وكذلك الله وكل شيء ،مع العلم بوجود الماديين الكثيف في هذا المذهب.
وسأبدا أنا من خلال هذا المقال الصغير ...
مشكلة الحقيقة هي من المشاكل الميتافيزيقية الرئيسية التي يتعين على أي مذهب ديني أو فلسفي متماسك أن يعطي لها تصوراً ،بل إن كل إنسان يجب أن يعطي تصوراً خاصاً به عن الحقيقة ، لكي يتسنى له متابعة حياته الفكرية دون أن يقع في التصرفات المجنونة ( غير العقلية ).
(1) لمحة عامة عن قضية الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية ونشأتها عند الإسان :
يروق للفلاسفة أن يسموا مشكلة الحقيقة "بمشكلة بيلاطس" ، أحد أشهر مسؤولي العدالة في التاريخ ، الذي قال له المسيح أثناء التحقيق : "إنما كانت الغاية التي من أجلها ولدت ، والغرض الذي من أجله أتيت إلى العالم ، هو أن أكون على الحقيقة شاهداً ،وإن كل من كان من أهل الحقيقة ليصغي إلى ما أقول" ، وكان رد بيلاطس الشهير هو :"ما الحقيقة" ...
لقد اعتاد الناس على ما يسمى بالفلسفة "الموقف الطبيعي" ،والذي يرى أن كل شيء في الوجود حقيقة ،سواءً أكان طريق الوصول إليه هو العقل أم التجربة ،ويندرج تحت هذين التصنيفين جميع مظاهر الوجود التي تشمل المادة والعقل والذهن واللاهوت ،وأن الشيء غير الحقيقي يقتصر على ما يقوله الإنسان دون دليل ، أو دون تمحيص أو دون نية بالصدق ، أي أن الكذب "ظاهرة إنسانية مجردة" ولا علاقة لها بالوجود.
لكن الإنسان عندما ينظّم تفكيره ويربط بين معلوماته وتجاربه المختلفة ويلع على معلومات جديدة يربطها معها ، أي عندما يتفلسف ، سوف يرى أن المنطق الشعبي الذي يستخدمه معظم الناس ، دائماً ما يؤدي بهم إلى نتائج مختلفة ، فمصطلحا "اللاممكن" و"اللامعقول" ، يعنيان عند كل شخص شيئاً مختلفاً عن بقية الناس ،ويمكن بناء تأويلات لغوية قد تكون لانهائية ،يمكن من خلالها تفسير اللاممكن واللامقول ،بل إن "السلطة العلمية والدينية" أصبحت في هذا العصر لا تنطوي على أي حقائق مطلقة وهو ما يقره العلم نفسه سواءً بمنهجه البراغماتي الذي لا يعير للواقع النهائي للوجود أي أهمية في بحثه ،أو بالمعلومات التي أصبحت تناقض كل دراسة فيها دراسة أخرى ،وأصبح في كل فرعٍ شيء يعرف بالقسم التقليدي ( كالفيزياء التقليدية ) والقسم الحديث ( كالفيزياء الحديثة أو المتقدمة ) ،والمشكلة أن كلّاً من القسمين ينطوي على نتائج صحيحة ،ولا يوجد طريقة للوصل بين هذين القسمين ،بل إن القسم الواحد يحتوي على مفارقات ، كما حصل في الفيزياء الحديثة في المفارقات التي أنتجتها محاولات التوحيد بين نظرية النسبية ونظرية الميكانيكا الكمية ،مع العلم أن هاتين النظريتين كلتاهما حديثتان.
وهذا العلم نفسه أصبح يناقض الموقف البيعي الساذج ،فأصبحت الجبال الثابتة تتحرك بسرعة أكبر من سرعة الطائرة العادية بالنسبة إلى محور الأرض ،بل أسرع من ذلك بعشرات المرات بالنسبة إلى الشمس ، وأسرع من ذلك بآلاف المرات بالنسبة إلى المجرات البعيدة ،رغم أننا لا نحس بتلك السرعة.
ولذلك كان لابد من وضع قواعد للتفكير يتم من خلالها إثبات تاويل واحد لتلك المصطلحات ،والمرجع لذلك هو الفكر نفسه ،ويجد الباحث عندما يلجأ للموقف الطبيعي في هذه الحالة ،أن البحث لابد أن يبدأ في دائرة المعرفة الإنسانية ،وحينها سوف يتعرف على الحصاد الفلسفي لجميع الفلاسفة الذين سبقوه ،ولكن عينه ستقع على أبسط ما أنتجه الذهن الفلسفي في ميدان مقاييس الحقيقة كونه باحث مبتدئ ، ألا وهو المنطق القياسي أو ما يسمى بالمنطق الأرسطي (نسبة لأرسطو).
وهذه كانت بدايتي أنا أيضاً في البحث عن الحقيقة المطلقة ،وسأسرد تسلسل الأحداث الفكرية الكبرى في رحلتي وما انتهت إليه ...
(2) مشكلة الحقيقة كمشكلة فلسفية ميتافيزيقية :
لقد نشأت الفلسفة من أجل تنظيم وربط وإبداع الأفكار الفلسفية بطرق منهجية توصل إليها الفلاسفة من قبل ، والأفكار الفلسفية هي الأفكار المتعلقة بالوجود والإنسان والمبنية على تدليل منهجي أو شعبي ولكن مترابط مع أفكارٍ أخرى ...
وقسمت الفلسفة قديماً وحديثاً إلى عدة أقسام ،كل قسمٍ يبحث بجزءٍ من الأجزاء الكبرى للوجود ، أو كما يحلو لي أن أقول ،كل قسم يبحث بظاهرة أو تجلي من تجليات الوجود ،وأقوى وأشهر تقسيم رئيسي للوجود بناءً على مشكلة الحقيقة ،هو تقسم الوجود إلى ظاهر وباطن ،كما بدأه أفلاطون ثم أكمله ونسقه أرسطو ليشكل علمين ،الأول هو الفيزيقا أو الفيزياء ، التي تبحث بماهية المحسوس والمرصود ،وثاني قسم وهو الأهم ،هو الميتافيزيقا.
إن أسهل تعريف للميتافيزيقا هو أنها "العلم الذي يدرس الخصائص والصفات والقوانين والبناءات العامة التي تتعلق بالوجود بصفته وجوداً وليس بصفته موجوداً" ، أي أن العلم الطبيعي لا ينبؤنا بجوهر "المادة" و"الطاقة" و"الزمان" و"المكان" ،ولا بالقوانين التي تحكم كلّاً من هذه الأشياء ليس بصفتها مكاناً أو زماناً أو مادةً أو طاقة ،بل لكونها أشياء موجودة في حيز الوجود ،فضلاً عن أنه لا ينبؤنا بالمرة بالمعاني الفلسفية التي ليس لها مظاهر مادية مثل كلمة "قانون" وكلمة "حقيقة" وكلمة "وجود".
إن كل ما يفعله العلم هو أن يأتي لنا بمظاهر الأشياء المرصودة ،ولكنه يحتاج إلى تلك المفاهيم مثل القانون والحقيقة والظاهر والباطن والمكان والزمان من أجل أن ينبني عى هذه الأساسات مفاهيمه اللغوية والمنطقية عن العالم المحسوس المادي ، ولذلك يصف فلاسفة العلم مثل كارل بوبر الميتافيزيقا بأنها "أساس العلم" الذي يتم البناء عليه ،أما الميتافيزيقا التي تبحث أعمق من العلم الطبيعي بمراحل ، يمكن من خلالها فق الوصول إلى "العالم الحقيقي" الذي يقبع في باطن الأشياء وفي اللامحسوسات واللامحسوبات.
ومن هنا يمكن تعريف الميتافيزيقا بأنها : "الدراسة الفلسفية للتجلي الجوهري والباطني والمعنوي والحقيقي للوجود".
لقد أصبحنا الآن نعرف جيداً المعنى الصحيح لعبارة "ما وراء الطبيعة" وهي مختلفة بشكل جذري عن الباراسيكولوجي ( ماوراء علم النفس ) التي تدرس الظواهر الإنسانية والسلوكيات المتعلقة بالميتافيزيقا أو المفترض أنها تتعلق بالميتافيزيقا أكثر من تعلقها بالعلوم الطبيعية.
والحقيقة هنا هي مشكلة ميتافيزيقية أنطولوجية ( وجودية ) تتمثل بأسئلة رئيسية من مثال : ما طبيعية الحقيقة بصفتها جوهراً ،وما طبيعتها بصفتها وجوداً ، وما معيار الحقيقة وما إمكانية الوصول للحقيقة ،وما هي الحقائق الأساسية للوجود ،وما هي الحقيقة المطلقة النهائية للوجود ،أي ما معنى الوجود والغرض منه وكيف وجد ... إن الحقيقة هي أحد المعايير الفلسفية الأساسية التي تشترك في جميع أقسام الفلسفة مثل الابستمولوجيا ( نظرية المعرفة ) والسيمانطيقا ( الدلالة ) والميتافيزيقا ( ما وراء الطبيعة ).
(3) نظرة على تاريخ مشكلة الحقيقة وما وصلت إليه :
تبدأ مشكلة الحقيقة وفقاً للتاريخ الرسمي مع الهرمسيات ونصوص الفيدا الهندية بالإضافة إلى أسفار العهد القديم التي تم إحراقها والتي بقيت ،والسبب في رؤيتي هذه هو أن هذه النصوص تحتوي على نوعين من التأويل : الظهري والباطني بما يشتمل عليه من تاويل رياضي وفلسفي وسحري ،وقد عبر حكماء الهند في شروحات الفيدا عن ذلك علناً كما فعل القبلانيون في شروحات التوراة القديمة والكتب الهرمسية ... ومن السذاجة الفلسفية أن نعتبر مشكلة الحقيقة بدأت فق من اليونان القديمة ، فوهم هذه المعجزة الإغريقية لا وجود له إلا في عقول المتعصبين ،لأن الأديان فلسفات ، ولا تأتي القناعة بها إلا عن تفكير فلسفي ، والأهم من ذلك فالتعاليم الباطنية فلسفات وقد توضح هذا الفرض الأخير بشكل مفصل في القرن الأخير ...
إن مجرد التفريق بين الظاهر والباطن في الوجود ، وبين الحقيقي والمزيف في المعرفة البشرية ،والتفكير الناقد للمعرفة ،ووضع مناهج معينة تستخدم العقل للوصول إلى الباطن والحقيقي ، هو تفكير فلسفي نافذ ... وهذا التفريق بالإضافة إلى المناهج ، كان موجوداً بأقصى درجات الوضوح في التعاليم الباطنية الهرمزية التي بقيت إلى اليوم.
ولكن هذه المناهج بلغت من التعقيد ما يجعل من المحتم أن نصل إليها بالتدريج ، وهذا التدريج يجب أن يبدا مع التجربة الفلسفية الرسمية التي لا تزال محفوظة إلى اليوم ،وهذا يعني أيضاً أن الحكمة القديمة كانت قد ظهرت بالتدريج هي بدورها ، أو على الأقل ،ظهر معها مفاهيم فلسفية مناسبة وكثيفة اختفت ولم يبقى لنا سوى أن نعتمد على فلسفتنا الرسمية والتي بدأت من القرن السادس قبل الميلاد مع السيد طاليس.
وهذا السرد الآتي سوف لن يكون برطيقة تاريخية بل بتسلسل منطقي مع ذكر الاتجاهات التاريخية التي تبنته :
1. التطابق كنظرية للحقيقة وتعريف الحقيقة على هذا الأساس :
إن أول ما يخطر على بال المرء عندما يعرف الحقيقة هي أن من يصل إليها هو من يتأكد من تطابق فكره مع الواقع ، ،وفي الواقع هذا تعريف بسيط جداً ومشاكله كثيرة جداً ،وهو يعود إلى مذهب الرواقيين الذين استوحوه بدورهم من تعاليم أرسطو ...
فأول صعوبة تواجه القائل به هي صعوبة تعريف الواقع ، أي محور الغسناد الذي يتم مقارنته بالفكرة وإسنادها إليه ،ترى هل يقصد بذلك عالم المادة الموضوعي ؟ أم عالم الوعي الذاتي ؟ أم عالم الميتافيزيقا ؟ فإنه يمكن تسمية كل عالم من هذه العوالم ب"الواقع" ، وهي تناقض بعضها بعضاً ،ولو افترضنا أنه تم الاختيار ووقع على أحدها ، فما الدليل المنطقي على أنه هو الواقع وليس غيره ؟ بل إنه حتى ولو كان لا وجود إلا له ،فهذا لا يكفي لكي نقول إن هذا العالم هو الواقع ، لأنه قد يكون وهماً هو الآخر ( هذا افتراض مبدئي لمن لا يعرف طبيعة هذه العوالم ).
أما الصعوبة الثانية فقد لا تقل أهمية ، وهي صعوبة إمكانية معرفة التطابق هل حدث أم لم يحدث : فلنفترض أننا تخيلنا وجود إبريق عملاق يدور بين كوكبين لا نعرفهما ،وإبريق آخر يدور بين القمر والأرض لكنه متناهي الصغر بحيث لا يمكن أن يتم رصده بآلاتنا ولا باي آلات أخرى مهما بلغت من التعقيد ،ترى كيف سنعرف هل هذا التصور موافق للواقع الفيزيائي أم لا ؟ ففي كلتا الحالتين ليس هناك إمكانية لإثبات أو إثبات عدم وجود هذين الإبريقين ،هذه المفارقة تعرف ب"إبريق راسل" نسبة إلى برتراند راسل ،وقس عليها جميع الأفكار المختلفة سواءً المتعلقة بعالم الفيزياء أو بعالم الميتافيزيقا أو بعالم الوعي ، حيث دون وسيلة للتحقق لا يمكن أن نعرف أي حقيقة إذا كان تعريف الحقيقة هو التطابق بين الفكر والواقع ، وكل ما سنحصل عليه هو مجرد نظريات لا حصر لها عن الوجود ... والوسائل المعروفة للتحقق من التطابق ليست متطورة كفاية من أجل أن تصبح وسائل مقنعة لجميع الفلاسفة ،فوسيلة التحقيق الحسي ،والتي تنص على الرصد الحسي للواقع مبنية على فرضيتين غير مؤكدتين : الأولى هي أن الواقع الفيزيائي هو الواقع النهائي ،والثانية هو أن الرصد الحسي رصدٌ موثوق للواقع.
لكن أعقد صعوبة هي "المشكلة المركبة في التطابق" ، فإذا عرفنا الواقع الحقيقي ، وتمكننا من مطابقته مع الفكر عن طريق معيار مطلق ، فما الذي يثبت أن التطابق هو معيار الحقيقة ؟ إنه "التماسك المنطقي" لنظرية التطابق ،والذي يمكننا من الحسم أن التطابق يوصلنا إلى الحقيقة من خلال اعتبار ذلك بداهة ،وهذا المعيار ليس نوعاً من التطابق ،مما يعني أن الحقائق تصبح "حقائق منطقية" وليست "حقائق تطابقية".
عادة ،كان المذهب المادي يسيء استخدام هذه النظرية ، فقد كان يقفز فوق كل الصعوبات ، ويعتبر وسيلة معرفة الحقيقة الوحيدة هي الحس ،إلى أن أصبحت الرؤية الحسية للحقيقة منافية تماماً للعلم وعاراً على من يقول بها ، فتحول المذهب الحسي إلى القول بأن الحقيقة المطلقة غير موجودة كما حدث في المذهب الوضعي المنطقي.
2. الترابط كنظرية للحقيقة :
يتمثل هذا الرأي عن الحقيقة بالقول أن معيار الحقيقة الوحيد هو ترابطها المنطقي ،فالحقائق المطلقة هي حقائق منطقية أوجبتها البداهات المنطقية ، ويمكن معرفة هذه الحقائق بمعرفة البداهات والربط بينها بتسلسل منطقي استنباطي ،وتتمثل الصعوبتان الرئيسيتان لهذه النظرية في البعد بين العالم المادي والعالم المنطقي ، حيث كيف نستنتج من البداهات المنطقية مثلاً معادلات فيزيائية ؟ ،أما الصعوبة الثانية فهي بافتراض أمكن الرب بين العالم الفيزيائي والعالم المنطقي ، فكيف يمكن أن يتم إثبات صدق البداهات ؟ وقد وصفها هيوم الفيلسوف الوضعي بأنه لا دليل على البداهة لأنها ناتجة من استقراء ناقص ، فربما ليس كل ما في الحياة يخضع للمنطق أو للسببية ... ولكن الصعوبة الاكبر هي في أن المنطق قد لا يكون الواقع النهائي الذي نصل من خلاله إلى الحقيقة حتى ولو كان مرتبطاً بالواقع الفيزيائي.
3. العَملانية أو البراغماتية :
رأي البراغماتيين كان مختلفاً عن النظريتين الرئيسيتين "التطابق والترابط" ،فهم اعتبروا أن الوجود لا يحتوي حقائق مطلقة ، أو على الأقل لا يمكن الوصول إلى الحقائق الملقة ، وكل ما يمكننا فعله هو وضع منهج للوصول إلى الحقائق العملية التي تخدمنا ، وهذا ما يفعله العلم أيضاً ...
4. المعيار اللغوي للحقيقة والمنعطف اللغوي :
هنا تصل رحلتنا إلى نهايتها ،مع المذاهب اللغوية ،حيث ترى هذه المذاهب أن الوجود له طبيعة لغوية عميقة وكونية ، ومن خلالها يمكن الوصول إلى الحقيقة ، وتنقسم المذاهب اللغوية إلى :
1.المذهب التحليلي بقيادة بتجنشتاين ومدرسة فيينا : وهو اول وأقدم المدارس اللغوية الحديثة ، يرى أن الحقيقة إما أن تكون تحليلية وإما أن تكون تجريبية ، والتحليلية تبدأ من البداهات إلى النتائج ، وفي هذه الحالة لا وجود ل"ما وراء البداهات" مثل الكلمات الميتافيزيقية ذات المعنى الجوهري ، مثل كلمة "الحقيقة" نفسها ... وبالتالي كل لكلمات لها معاني نسبية ، وهذه المعاني لا تعبر عن جوهر الكلمة بل عن وظيفتها ، فليس هناك جوهر اسمه "العقل" ولا جوهر اسمه "المادة" بل العقل مجوعة وظائف يقوم بها الإنسان ، الذي هو وظائف تقوم بها المادة ، التي هي وظائف أخرى وهكذا ... ولذلك فالميتافيزيقا مجرد لغو فارغ ، إنها كلمات تعبر عن وظائف ومعاني مركبة من كلمات نسبية تنتمي إلى المادة ، وتمت إضافة الحقيقة التجريبية من أجل عدم زحزحة العلم ،وأول صعوبة في هذا المذهب هي صعوبة قاتلة ! ،وقد طورها كارل بوبر ،وهي أن عبارة "الحقائق نسبية" هي نفسها عبارة ميتافيزيقية ،وربما نقوم بتمحيص لهذا المذهب قريباً ...
2. المذهب التأويلي بقيادة غادامير والتأويليين المحدثين ،ومعناه بالانجليزية "الهرمنيوطيقا" ، وهي كلمة مستمدة من اللاتينية والتي بدورها استمدتها من اللغة المصرية القديمة من كلمة "هرمس" الذي اعتبر خبير التأويل الأول ، واعتبرت هذه الفلسفة أن الحقيقة تأويلية ،وكل شخص لديه حقيقة مختلفة عن جميع الأشخاص ،فتأويل النصوص والرموز سواءً في اللغة أو في الوجود هو ما سيوصلنا إلى الحقيقة ، ولابد من وضع منهج مطلق للتأويل إذا أردنا الوصول إلى الحقيقة المطلقة ، وذلك بتأويل الميتافيزيقا نفسها بصفتها لغة كونية وهو رأي لم يقل به جميع أتباع هذا المذهب بل قلة منهم ،أما الشائع هو استحالة وجود حقيقة نظراً للانهائية التأويلات.
3.المذهب البنيوي ولا أملك عنه معلومات كثيرة ، لكن على عكس النظرة الوظيفية يؤمن ببنيوية الألفاظ الميتافيزيقية ، أي أن العقل جوهر وكذلك المادة ، وكذلك الله وكل شيء ،مع العلم بوجود الماديين الكثيف في هذا المذهب.